الحلقة الثالثة

جريدة العرب – الدوحة

يرى الدكتور علي محيي الدين القرة داغي إن حفظ أمن الدولة من أساسيات الأمن الشامل الذي لا يمكن أن يتحقق بدونه، مؤكداً على أن الجميع يجب أن يسعوا دائما للحفاظ على أمن الدولة، إذا ما أرادوا التمتع بأمن شامل، فالأمن العام في نظره أهم ركائز الحياة الطبيعية التي يريدها الإسلام والتي تقوم على مقاصد الشريعة الكبرى، يقول القرة داغي: أمر الله تعالى بحفظ أمن الدولة وشرع لذلك وجوب البيعة، وحرمة الخروج على السلطان المسلم، كما وضع الله تعالى لحمايته حداً وهو حد البغي، إضافة إلى تحريم الاعتداء عليه، ووجوب حمايته، فقال تعالى: “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَىَل الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “… ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر”، ويقول صلى الله عليه وسلم: “من حمل علينا السلاح فليس منَّا”.

والبغاة هم الذين يخرجون عن طاعة إمام الحق، أو من ينوب عنه بغير حق، وقد يكون لهم تأويل، ويحملون السلاح في وجهه، وبعبارة معاصرة هم المعارضة المسلحة التي تريد تحقيق ما تريده بالقوة والسلاح، فهذا عمل غير جائز شرعاً، فقد أجمعت الأمة على حرمة الخروج المسلح على الإمام العادل الذي ثبتت له الولاية بطرق مشروعة، وأن جمهورهم على حرمة الخروج المسلح حتى على الإمام الفاسق الفاجر ما دام تترتب عليه فتنة وسفك دماء، وبث الفساد والاضطراب، مع أن الجميع يثبتون الحق للأمة في عزله وخلعه إذا ظهر منه سبب يوجبه مثل: الفسق، والظلم، بشرط ألا تترتب عليه فتنة أشد”.

العلاقة بين المقاصد الثمانية

والأمن النفسي والروحي

إن تحقيق مقاصد الشريعة الثمانية يترتب عليها تحقيق الأمن النفسي، والروحي للفرد والمجتمع والدولة في ضوء ما يأتي:

أولاً: إن الحفاظ على مقصد الدين يترتب عليه ما يأتي:

1 – تحقيق الحرية الدينية لكل فرد، وحماية معتقده من الإكراه فقال تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ”، وقال تعالى: “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر”، وبالتالي فكل إنسان في ظل الشريعة يعيش في ظل الأمن والأمان الروحي دون إكراه ولا اعتداء، ولا ظلم ولا بخس بسبب دينه.

2 – قيام كل إنسان بأداء شعائره الدينية دون خوف ولا وجل.

3 – القيام بمقتضيات دينه من الالتزام بالعقود والعهود ورعاية حقوق الآخرين والالتزام بالقيم السامية والأخلاق العالية في التعامل مع الناس أجمعين، وهذا الالتزام يلتزم منه تحقيق الأمن للجميع.

فمثلاً إن الإسلام أمر أتباعه بأن يكونوا خيراً ورحمة وبركة وأمناً وأماناً لجميع الناس أجمعين إلا من ظلم وبغى واعتدى وطغى فإنه يعامل بمثل عمله، بل الله تعالى أوصى عباده بأن تكون تصرفاتهم الفعلية لينة هينة لا تؤذي أحداً، وتصرفاتهم القولية برداً وسلاماً، فقال تعالى: “وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَىَف الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا”، بل أمر الله تعالى بأن يكون تعامل المسلم مع المسلم ومع غيره المسالم بالتي هي أحسن، فقال تعالى: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ”، وأن تكون دعوتهم بالكلمة والموعظة الحسنة، وجدالهم بالتي هي أحسن، فقال تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، والآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة في القيم والأخلاق الفاضلة والقول الأحسن والفعل الأحسن والحوار بالتي هي أحسن والصبر الجميل، والهجر الجميل وكظم الغيظ والعفو عن الناس أكثر من أن تحصى في هذه العجالة.

4 – ومما يتعلق بهذا الجانب الديني في الإسلام هو أن الإسلام يعترف بجميع الأديان السماوية وبجميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل لا يتم إيمانه إلا بذلك، كما قال الله تعالى: “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”، كما أنه يؤمن بالأخوة الإنسانية ويركز عليها، وهي أخوة جامعة تؤكد أن أصل البشرية واحد، “الناس بنو آدم وآدم من تراب”، وفي رواية صحيحة أخرى بلفظ “الناس من آدم وآدم من تراب”.

إن تأكيدات القرآن الكريم على أن أصل بني البشر واحد وأنهم جميعاً من آدم وحواء ليراد بها تحقيق الأخوة والقرابة للوصول إلى التعاون والتعايش على أساس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات فقال تعالى مؤكداً هذا المقصد: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً”.

5 – ضرورة الحفاظ على سلامة الفكر والتصورات والابتعاد عن الإفراط والتفريط والغلو في كل ما يتعلق بالدين والأنشطة المرتبطة به، فالإسلام أمرنا بتحقيق الوسطية والاعتدال والسير عليه فقال تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَىَن النَّاسِ