سادساً: تفسير (تأويل الأحاديث) بالتحليل العقلي الحكيم، أيضاً لتحقق القدوة :
إن جماهير المفسرين قد فسّروا (تأويل الأحاديث) في السورة بتعبير المنام، وهذا حق لا شك فيه، لكن الكلمتين (تأويل) و ( الأحاديث) تحتملان معنى آخر، وهو استعمال العقل والبصيرة والفطرة السليمة لمعرفة نتائج الأفعال ومآلاتها وآثارها السلبية، أو الإيجابية، وهذا ما يسمى بالتحليل العقلي : الاقتصادي أو السياسي .
ولا مانع من الجمع بين هذين المعنين، إذ لا تعارض في الجمع بينهما ، بل إن كمال النعمة وتمامها يتحقق بالنبوَّة، والحكمة، فالنبوّة هبة من الله تعالى وليست مكتسبة، أما الحكمة فهي مكتسبة من حيث المبدأ، وقد أجاز علماؤنا الجمع بين المعاني المشتركة، أو بين الحقيقة والمجاز ما دام ذلك ممكناً.
فالتأويل لغة من آل يؤول أولاً، ومآلاً أي رجع وصار، وأوّل الشيء إليه : أرجعه ، والكلامَ، فسّره وردّه إلى الغاية المرجوة منه، والرؤيا : عَبَرها، والتأويل هو الرجوع ، وهو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه .
وأما الأحاديث فهي تشمل الحوادث والوقائع والأخبار والرؤى ، وبالتالي فإن تفسير (تأويل الأحاديث) بالمعنين صحيح ، وحينئذ تكون دلالة الآية على التحليل العقلي الحكيم واضحة ، يقول ابن عاشور : (والتأويل : إرجاع الشيء إلى حقيقته ، ودليله، وتقدم عند قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) .
ويصح أن تكون جمع حديث ، بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث : إرجاع الحوادث إلى عللها، وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام، وهو المعني بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته.
ويصح أن تكون جمع حديث بمعنى الخبر المتحدث به، فالتأويل : تعبير الرؤيا سميت أحاديث، لأن المرائي يتحدث بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين، واستدلوا بقوله في آخر القصة : (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ) .
قال ابن عاشور : (ولعل كلا المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح) .
ومما لا شك فيه ان إتمام النعمة بنعمة النبوة، ونعمة الحكمة الدنيوية ، والاجتباء الأخروي مع المجد النبوي.
وبناء على ذلك فإن تأويل الأحاديث يشمل ما يسمى في عصرنا الحاضر بالتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وبذلك يتحقق الاقتداء الكامل، لأن تأويل يوسف عليه السلام للأحاديث إذا حمل على النبوة فلا قدوة فيها، لأنها غير مكتسبة ، ولكن إذا شمل التحليل العقلي القائم على الحكمة فإن ذلك هو محل الاقتداء .
سابعاً- تقوية الثقة بالله تعالى وبما يفعله لعباده:
تركيز السورة على تقوية الإيمان والأمل ، والثقة المطلقة بالله تعالى في جميع الأحوال ، وحتى في حال المحن والشدائد والمصائب والفتن والابتلاءات ، حيث إن القصة أثبتت أن كل ما أصاب يوسف ( عليه السلام ) كان ضمن حلقات متسلسلة لتوصيله إلى ما أراده الله تعالى له من التمكين ، وأن كل حلقة بما فيها من المحن والشدائد كانت ضرورية للوصول إلى الحلقة الأخرى وهكذا ..
فلو لم تكن هناك مؤامرة إخوانه بإلقائه في الجب لما استطاع المارَّة أن يأخذوه إلى مصر ، ولو لم يقوموا ببيعه ، بل تركوه عندهم لما تحققت الحلقة التالية ، وهي أن يشتريه عزيز مصر ، وكذلك لو لم تكن حلقة فتنة المرأة لما دخل السجن ، ولو لم يدخل السجن لم يتحقق له اللقاء بالشخص الذي رأى رؤية بأنه يسقي سيده خمراً ، وهكذا تقدير العزيز العليم .
فكل ما أصابه كان ضمن هذا التقدير ، وهذا يعطي الأمل الكبير لكل من يسير على الحق والصواب فتصيبه المصائب والمحن فإن عليه أن لا ييأس من روح الله تعالى ، فقد تكون أسباباً لمنح عظمى .
( ولكن هذا لا يعني أن يتواكل المؤمن بل عليه شرعاً أن يسعى بكل جهده ويأخذ بجميع الأسباب ثم يفوض الأمر إلى الله تعالى .
كما أن هذا لا يعني أن المجرم إذا فعل جريمة أو فتنة ، أو مصيبة وترتب عليها فيما بعد نتائج إيجابية يكون بمنأى عن استحقاقه العقاب في الدنيا والآخرة ، لأن العقوبة على عصيانه وجريمته ، وبفعله وإرادته ، أما ما يحدث فيما بعد فهذا من قدر الله تعالى المختص به).