إنّ من أعظم الحقوق عند الله سبحانه وتعالى، أداء حقوق العباد بجميع أنواعها، وأشكالها، حتى إنّ الله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنّه يغفر من حقوقه تعالى ما شاء؛ فمن اعتدى على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، فإنّه سبحانه وتعالى غفور رحيم، وشديد العقاب، إن شاء غفر له ورحمه، وإن شاء عذّبه ولكنّ رحمته دائماً تسبق غضبه، وتسبق عذابه وعقوبته، أمّا حقوق العباد فقد كتب الله سبحانه وتعالى بأنّها تعود إلى أصحابها، فمن كان عليه حقٌّ من أيّ شخص كان، فإنّ هذا الحقّ لن يزول، ولن يفنى، ولن يسقط بالتّقادم كما يقال في القانون، وإنّما سيظلّ متعلّقاً برقبة الإنسان إلى أن يؤخذ منه هذا الحقّ يوم القيامة،  وإذا كانت هذه الحقوق كثيرة وكبيرة، فإنّ هذا الشخص الذي صلّى، وصام، وحجّ، وزكّى، وغير ذلك، حينما يحاسب يؤخذ من حسناته حتى يصبح هذا الشّخص مفلساً كما قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: ( أتَدرونَ من المُفلِسُ؟ إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ).

اليوم نتحدّث عن أحد هذه الحقوق، وهو حقّ الدَّين، أو حقّ القرض حينما يكون على الإنسان، حيث نجد معظم النّاس يتساهلون في دفع حقوق النّاس ولا سيّما الحقوق المالية، سواء كانت هذه الحقوق ناتجةً عن القرض الحسن، أو ناتجةً عن معاملة مثل المرابحات، والمداينات، ومثل أجرة الكراء التي لم تسددّ فهذه تصبح ديناً.

وضع الرسول صلى الله عليه وسلم لنا برنامجاً كاملاً فيما يتعلّق بالدَّائن والمقتَرِض، وبالمُقرِض والمدين، والفرق بين القرض والدّين، أنّ القرض حين تستلم قرضاً حسناً من شخص، أمّا الدّين فهو كل التزام أصبح واجباً عليك أن تدفعه، سواء كان بسبب عقد كعقد البيع أو الاستصناع، أو حق الإجارة، أو بسبب النّكاح كالمهر، وغير ذلك من الحقوق، وضع الإسلام لهذه الدّيون والقروض منهجاً عظيماً وحكيماً.

 فبالنّسبة للشّخص المقتَرِض الذي يصبح مديناً، يجب عليه أوّل ما يجب حينما يقدم على طلب قرض، أو حينما يقدم على عقد فيه المُداينات، أوّل ما يجب عليه أن يسأل نفسه، هل لديه القدرة على أداء هذا القرض، أو على أداء هذا الدّين؟ فإن كانت له قدرة فيجوز له أن يقدم، ومع ذلك يجب عليه أن ينوي نيّة جازمة أنّه يريد أداء هذا الدّين، ولذلك ورد في الحديث الثابت أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال:          

 "مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" ، فلابد من هذه النّية الطيّبة للشخص الذي يقدم على الاقتراض، واليوم مع الأسف الشّديد أصبحت الدّيون قضية عامّة، قضيّة تعمّ الجميع، الأغنياء والفقراء كلٌّ يريد أن يستدين ويقترض، وهو منهج غير صحيح، وقد بيَّن الرّسول صلى الله عليه وسلم خطورة الدّين والقرض، إذا كان الإنسان غير قادر على أدائه، وكان صلى الله عليه وسلم، يسأل عن الجنازة تُفع إليه: هل على صاحبها دين؟ فإذا قالوا: نعم، سأل صلى الله عليه وسلم: هل ترك شيئا ممّا يدّى به دينه؟ فإن كان قد ترك شيئاً ممّا يؤدّى به دينه، صلّى عليه الرسول عليه الصّلاة والسّلام، وإذا لم يكن هناك مال ولم يكن أدّى ما عليه من الدّين يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه؛ ليكون عبرة لغيره، حتّى أنّ أحد الصحابة الكرام لمّا توفي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فوجد أنّ عليه ديناً، فقال صلى الله عليه وسلم صلّوا على صاحبكم، حتى أدّى عنه أحد الصحابة رضي الله عنهم، ما عليه من دين، فحينها صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولذلك كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ في سجوده من المغرم أي الدّين، ومن المأثم، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ من عذاب القبر،  وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المسيح الدّجال  وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا، وَفِتْنَةِ المَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ  وَالمَغْرَمِ))  فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ).

فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قضيّة اجتماعية خطيرة، وهي أنّ الإنسان حينما يكون مديناً، وليس له القدرة يترك صلاة الجماعة، وبعد ذلك يكذب على الدّائن أو صاحب القرض، ويعده بالسّداد ولكن لا يوفي وعده، فيترتّب على الدّين آثام كثيرة، وذنوب كبيرة، وهذه قضية تحتاج إلى دراسة اجتماعية مفصّلة لعظيم خطورتها.

ثمّ إنّ الشخص المدين أو المقتَرِض إذا كان قادراً، ولم يؤدّ ما عليه من دينٍ مثل المرابحات، أو الإجار، أو قروض، أو غير ذلك من الدّيون، إذا أخّر فالرّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه قال:" مطل الغنيّ ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع " ، وفي رواية أخرى لابن حبّان في صحيحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ"، الواجد هو الغني المماطل، فتجوز في هذه الحالة غيبته، والتشهير به، والعقوبة يحبس تعزيراً شرعاً،

وهذه المسألة وبخاصة حل العرض هي الطريقة الأفضل للتحذير من الغني المماطل في الغرب، فهناك ما يسمى عندهم (القوائم السّوداء)، يدرج الشخص المماطل في القائمة السوداء، وهناك شركات كبرى تدير هذه القوائم، فلا يتعامل معهم الأشخاص.

فالواجب ألاّ يُقدم الشخص على الدّين إلاّ عند الضّرورة، والحاجة القصوى، فإن كان ولابدّ فبنيّة الأداء أوّلاً، وعدم المماطلة ثانياً.

أمّا بالنسبة للدائن أو المقرِض، فعليه واجبات، وله أجر كبير، وقيل: له أجر نصف الصّدقة، وفي بعض الأحاديث له أكثر من أجر الصّدقة نفسها؛ لأنّ المقترض لن يأتي إليك إلاّ وهو محتاج، بينما الصّدقة يمكن أن تعطى لغير المحتاج، وعلى كلّ حال فالقرض فيه أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

 والدّائن يجب عليه أن ينتظر المدين، أو المقترِض المعسر لقوله سبحانه وتعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). فيجب أن يكون الدائن أو المقرض متسامحاً مادام الشخص المدين معسراً بسبب ظروف ما، يقول صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)) ، بل إنّه ورد في صحيح البخاري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل يُدَايِنُ الناس، وكان يقول لفَتَاه: إذا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عنه، لعَلَّ الله أن يَتَجَاوَزَ عنَّا، فَلَقِيَ الله فتَجَاوز عنه».