بقلم ا.د. علي القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

 ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة، ونحن فعلاً أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة، ونحوها.

 ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات الإنترنيت، وفيس بوك، وتويتر، والموبايل ساعدت كثيراً في تفجير ثورات في عالم السياسة، وساهمت في التجميع والتنظيم، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة التي كانت مدرسة فعلاً في الحفاظ على الأموال العامة، والخاصة، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين، والسلوكيات، حيث لم تشهد ساحة التحرير ـ المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع، بل بالملاييــن في بعض الأيام ـ مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي، أو مشكلة مالية من السرقات، والنهب، ونحوهما، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للإساءة إلى الثورة.

 والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع.

 الأدلة الخاصة

 وبالإضافة إلى الأدلة العامة فهناك بعض الأدلة الخاصة التي يُفهم منها صراحة مشروعية المظاهرات السلمية للتعبير عن الرضا، أو الرفض لبعض الأمور، منها:

1 – حديث أبي هريرة رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود في سننه، وابن حبان في صحيحه بسندهما: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: اصبر ـ ثلاثاً ـ فكرر عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: انطلق فاطرح متاعك في الطريق، فأخرج متاعه في الطريق، فاجتمع الناس عليه، فقالوا: ما شأنك؟ قال: لي جار يؤذيني، فذكر القضية، فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال له: ارجع إلى منزلك فوالله لا أوذيك أبداً.

 وجه الاستدلال بالحديث واضح، حيث يدل على أن تغيير المنكر قد تحقق من خلال وسيلة جديدة رادعة، أشبه ما تكون بمظاهرة سلمية صغيرة، ولكن فيها الدعاء على المؤذي ـ كما هو الحال اليوم ـ فأثرت هذه الوسيلة على المؤذي، فامتنع عن أذاه.

 2 – حديث ابن عمر رضي الله عنهما، الذي رواه أو داود، وابن ماجة، والنسائي والحاكم، وابن حبان، وعبد الرزاق بسندهم عن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله) فجاء عمر فقال: يا رسول الله: قد ذئر النساء أي اجترأ النساء على أزواجهن.

 فرخص الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلما أصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد طاف البارحة بآل محمد سبعون امرأة، كل امرأة تشتكي زوجها ثم قال: فلا تجدون أولئك خياركم وفي رواية ولن يضرب خياركم.

وجه الاستدلال: أن ما فعتله هؤلاء النسوة من مظاهرة ضد ضرب الرجال، وقد أقرهُنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بل وقف معهنّ وأيدّ مطالبهنّ بأن الذي يضرب ليس من الخيار، دليل واضح على مشروعية المظاهرة للتعبير عن رفض بعض الأمور حتى ولو لم تكن من المحرمات.

 يقول الدكتور سعود النفيسيان: فإذا كان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرجن جماعات أو فرادى في ليلة واحدة يشتكين ضرر أزواجهن أليست هذه هي مظاهرة سلمية؟! فما الفرق بين هذا لو خرج اليوم أو غدا مثل هذا العدد أو أقل أو أكثر أمام وزارة الداخلية، أوزارة العدل، أو المحكمة الشرعية، أو دار الإفتاء، يطالبن بتوظيفهن أو رفع ظلم أوليائهن أولئك الذين يمنعونهن من الزواج أو خرجن يطالبن بإطلاق أولادهن أو أزواجهن الذين طال سجنهم مع انتهاء مدة الإحكام الصادرة بحقهم أو لم يحاكموا أصلا !! وإذا جاز هذا للنساء كما جرى في عهد النبوة فما الذي يمنعه في حق الرجال.. قولوا الحق يرعاكم الله!!؟.

وبناء على ذلك فقد روي أنه سُئل الإمام أحمد عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال: (يأمره، قلت فإن لم يقبل؟ قال: تجمّع عليه الجيران وتهوّل عليه لعل الناس يجتمعون ويشهرون به).

 3 – وبالإضافة إلى ما سبق فقد روى أبو نعيم في الحلية حول خروج الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة في صفين عندما أسلم عمر، وحمزة رضي الله عنهما، حيث قال عمر: يا رسول الله.. ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا، قال: بلى . قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجنّ.. فأخرجناه في صفّين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد، قال فنظرت إلى قريش.. فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها…. ).

فهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق المظاهرة مشروع.

 وقد نوقش هذا الدليل بأنه ضعيف من حيث السند، حيث ضعّفه الألباني وغيره، ولكن القصة لها أصل يمكن الاستناد عليه، بالإضافة إلى أن مثل هذه الآثار تقبل للاستئناس.

 دور المظاهرات في الضغط الإعلامي على الحكام

إن للمظاهرات دوراً كبيراً وضغطاً إعلامياً عظيماً على الحكام المستبدين إقليمياً ودولياً، وتأثيراً خطيراً عليهم لا يتحقق دون التظاهرة، وتحقيق المطالب المشروعة للشعب، أو لأي مجموعة تطالب بحقوقها المشروعة أمام الشركات والمؤسسات.

 نماذج من تأريخنا

وإذا قرأنا تأريخ أمتنا الإسلامية وعلمائها فسنجد أنهم لم يقبلوا بالظلم والفسق والفساد والفجور من الحكام، فقد قامت ثورات مسلحة، وسلمية ضد الظلم والفساد منذ ثورة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وثورة سيد الشهداء الحسين بن علي رضي الله عنهما، وثورات كثيرة حدثت ضد السلاطين والملوك، فعندما احتل الصليبيون ثار المسلمون ضد عجز الخلافة في بغداد، فسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد مستنفرين على الفرنج، فلما وردوا بغداد اجتمع معهم خلق كثير من الفقهاء فقصدوا جامع السلطان، فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد، ولكنهم بقوا متظاهرين منتظرين ذلك، فلما أتت الجمعة الثانية قصدوا جامع القصر بدار الخلافة، ومعهم أهل بغداد، فمنعهم حاجب الباب فغلبوه، ودخلوا الجامع وكسروا شباك المقصورة، وقد كَتَبْتُ عن هذه الحادثة في عام 1980م فَقُلْتُ: فكانت هذه الأعمال من هؤلاء، ومعهم الفقهاء إعلاناً للحرب على الحكام المنشغلين عن أمور المسلمين، والملتهين بالحفاظ على كراسيهم دون أدنى اهتمام بالجهاد وما تعانيه الشعوب الإسلامية…. فكان شعار هؤلاء: الإسلام واحد لا يتجزأ فكما أن الجمعة فرض عين فكذلك الجهاد فرض عين إن احتل شبر واحد من أراضي الإسلام، فكيف وقد احتلت أولى القبلتين؟، وقد روى المؤرخون: أن أهل قرطبة ثاروا على الوالي المرابطي بسبب اعتداء أحد جنوده على امرأة من أهل قرطبة، فخعلوا بيعة المرابطين، وأقاموا حكماً جماعياً جعلوا على رأسه ابن حمدين سنة 539هـ، ثم ما لبث هو الآخر أن طغى واستبد بالأمر، وتَسَمّى بأمير المسلمين، وناصر الدين، فثار عليه أهل قرطبة أيضاً.

 هذا ما شرح الله به صدري، سائلاً الله تعالى أن يكون مقبولاً عنده، وأن يغفر لي عن الخطأ والزلل.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين