الوطن – الدوحة

 

يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (السياسة المالية والنظام النقدي في الإسلام)، وفى هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن الاسواق وجباية الزكاة:

ولأهمية الأسواق في الإسلام أولى الرسول صلى الله عليه وسلم عنايته بها منذ بداية هجرته إلى المدينة المنورة، حيث أنشأها فيها وقال: هذا سوقكم، فلا يُنْقِصَنَّ، ولا يُضربنّ عليه خراج كما عني صلى الله عليه وسلم بحريتها ومنع التسعير فيها، وتكافؤ الفرص فيها للجميع بعدل وانصاف حتى كان يداوم على تفقد أحوالها، ومراقبة الأسعار فيها، ثم سار على هذا المنهج الخلفاء الراشدون والحكام والولاة من بعدهم.

وقد راعى الإسلام الأسواق من خلال عناية تنظيمية تتمثل في نظام الحسبة الذي وضع الضوابط والآداب العامة للعاملين والمتاجرين فيها، وأعطى للمحتسب بعض السلطات والصلاحيات لعلاج القضايا التي تضرّ بأهل السوق بصورة عاجلة، تدخل الآن ضمن صلاحيات الشرطة، وتصل في بعض الأحيان إلى صلاحيات القضاء التجاري المستعجل في عصرنا، بالاضافة إلى وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات الظاهرة البينة، وكل ذلك في إطار تحقيق الأمن والعدل والحرية لجميع من له علاقة بالسوق.

الفرع الثالث: أدوات السياسة المالية الإسلامية وآلياتها:

إن للسياسة المالية مجموعة من الأدوات في ظل الاقتصاد الإسلامي لتحقيق جميع الأهداف، أو لتحقيق هدف معين وفق فقه الأولويات، نذكر أهمها مع بيان كيفية دورها:

أولاً ـ التغيير في عينية، أو نقدية الزكاة، أو في التعجيل، أو نحوها، للتأثير في الطلب الكلي، والعرض الكلي.

تمهيد في دور الزكاة بصورة عامة:

فقد فرض الله تعالى الزكاة عبادة لله تعالى، ولتحقيق التكافل والتضامن والمواساة، والقضاء، أو التخفيف من حد الفقر، والبطالة، والفوارق الطبقية، وتحقيق التوازن، والمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث يجوز دفع الزكاة لشراء أدوات الإنتاج وتمليكها لمن هو قادر على العمل، ودفع رأس المال لمن هو قادر على التجارة، وهذا مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد.

ومن المعلوم أن الزكاة لو جمعت بصورة صحيحة ليست قليلة، ففي عام 2007 وصلت أعلى مستوى في العالم الإسلامي فبلغت أكثر من 200 مليار دولار.

وقد شرعت الزكاة لأجل الأهداف السابقة، وقد استطاع الخليفة السادس عمر بن عبدالعزيز أن يحقق التكافل الاجتماعي من خلال الزكاة في فترة وجيزة، ونحن هنا لا نتحدث عن هذا الدور، وإنما نتحدث عن الاستفادة من الزكاة من خلال السياسة المالية، من حيث ترتيب مجموعة من الأدوات المؤثرة لتحقيق أهداف السياسة المالية السابقة.

ولم يختلف الفقهاء في مجموعة الثوابت الخاصة بالزكاة سواء اكانت تتعلق بالجباية أم المصارف، أو المقادير، أم أزمان دفعها.

ومن هنا فإن السياسة المالية لا تدخل أبداً في كل ما هو محدد مجمع عليه، ولكن ما فيه الخيار وما هو غير محدد، وما هو المختلف فيه فإن للدولة السياسة المالية الحق في وضع أدوات للجباية والمصارف، والمقادير، والأزمان فيما فيه مجال من الناحية الفقهية لتوجيه الزكاة لتحقيق الأهادف الموضوعة في الخطة المرحلية أو الاستراتيجية، نذكرها ها هنا بإيجاز:

1- تنفيذ جباية الزكاة وما تجب فيه الزكاة:

إن الفقهاء متفقون في بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومختلفون في بعضها، وهنا تستطيع الدولة التوسع بأن تأخذ برأي القائلين بشمولية الزكاة لكل ما هو مال نام بلغ النصاب، أو برأي القائلين بالتوسط، أو التضييق، وهذا حسب حاجة الأمة للتوسع أو التضييق أو التوسط.

2- كيفية الجباية نقداً أو عيناً:

من المعروف بين الفقهاء أن الأموال التي تؤخذ منها الزكاة تختلف حسب نوعيتها، فالثروة الزراعية، والحيوانية تكون زكاتهما من أعيانهما، في حين أن الثروة التجارية والصناعية، والمعدنية تكون زكاتها بالنقود، هذا هو الأصل، ولكن جماعة من الفقهاء (منهم الحنفية) أجازوا دفع جميع الزكوات نقداً، أي بالنقود في جميع الحالات، في حين أن بعض الفقهاء أجازوا دفع الزكاة كلها بالعين والسلع.

ومن هنا فإن الدولة تستطيع استعمال هذه الأداة – أي دفع الزكاة نقداً أو عيناً- في التأثير على كل من العرض والطلب الكليين، فمثلاً في حالة التضخم تأخذ الدولة جميع أنواع الزكاة، أو معظمها نقداً وبذلك تحجب كميات كبيرة من النقود عن التداول، أو تؤدي إلى التقليل، ثم توزعها على شكل سلع انتاجية أو استهلاكية، وفي الوقت نفسه فإن توزيع الزكاة عيناً السلع والبضائع يؤدي إلى زيادة الطلب على المنتجات العينية، مما يترتب عليه طلب العرض الكلي، وبذلك ساهمت جباية الزكاة نقداً، ودفعها عيناً في علاج التضخم، وفي زيادة الإنتاج، وانخفاض الأسعار.

ويمكن أن تستعمل هذه الأداة عكسياً في حالة الانكماش بأن تؤخذ أموال الزكاة أو معظمها عيناً، وحينئذ قلت البضائع في السوق أو لدى المزكين، ثم تصرف نقداً، وبذلك وجدت السيولة لدى المستهلكين، وحينئذ يزداد الطلب والعرض الكليان ـ وكما سبق، فإن حجم أموال الزكاة كبير مؤثر ـ

– توجيه أموال الزكاة نحو تمليك أدوات الإنتاج والمشاريع الاستثمارية:

إن بإمكان الدولة المساهمة في تخفيف حدة البطالة بالتوظيف من خلال الزكاة، بحيث تخصص نسبة كبيرة من أموال الضخمة للتشغيل بطريقتين:

الطريقة الأولى: شراء أدوات الإنتاج للعاطلين عن العمل، أو منحهم مبالغ للاستثمار تحت مراقبة الدولة، وذلك لأن العاطلين الفقراء أو المساكين عن العمل نوعان:

أ- عاطل بسبب عدم قدرته على العمل، وهذا يعطى من سهم الفقراء والمساكين بما يعينه لمدة عام، أو مدة العمر حسب وفرة أموال الزكاة أو عدمها.

ب- عاطل قادر على العمل، فهذا النوع سبق فقهاؤنا الشافعية وأحمد في رواية في حل مشكلته، جاء في المجموع: ( قالوا -أي الشافعية- فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته أولا آلات حرفته، قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبا تقريبا. ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص. وقرب جماعة من أصحابنا ذلك فقالوا: من يبيع البقل يعطى خمسة دراهم أو عشرة، ومن حرفته بيع الجوهر يعطى عشرة آلاف درهم مثلا إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها. ومن كان تاجرا أو خبازا أو عطارا أو صرافا أعطي بنسبة ذلك، ومن كان خياطا أو نجارا أو قصارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصنائع أعطي ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله، وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام. قال أصحابنا: فإن لم يكن محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة)، وجاء في شرح المنهاج: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للإمام دون المالك شراءه له، وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر، ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته، ولا يشترط اتصافه يوم الاعطاء بالفقر والمسكنة. قال الماوردي: لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا ربح مائة أعطي العشرة الأخرى وإن كفته التسعون لو أنفقها من غير اكتساب فيها سنين لا تبلغ العمر الغالب.

وهذا كله فيمن لا يحسن الكسب، أما من يحسن حرفة لائقة تكفيه، فيعطى ثمن آلة حرفته وإن كثرت، ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه منه غالبا باعتبار عادة بلده.. ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي.

ولو أحسن أكثر من حرفة والكل يكفيه أعطي ثمن أو رأس مال الأدنى وإن كفاه بعضها فقط أعطي له وإن لم تكفه واحدة منها أعطي لواحدة وزيد له شراء عقار يتم دخله بقية كفايته.