من المعهود في البحث العلمي أن نذكر أدلة كل فريق ثم المناقشة ثم الترجيح , غير أن ذلك في هذه المسألة الفرعية يتطلب كتابة عشرات الصفحات وهذه لا تتفق مع طبيعة البحث , وحينئذٍ كنت بين أمرين , إما ترك الترجيح , أو إستعراض الأدلة في بحث يكون أشبه بكتـاب , فآثرت أن أذكر الراجح – في نظري – مع أدلته , والرد على أدلة المخالف بإيجاز .

 

والذي يظهر لي رجحانه هو أن منع التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض محصور في الطعام , وأن العلة هي الطعام لا غير , وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة , منها الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم بسندهما عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ” من إبتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ” وفي رواية لهما : ” …. حتى يقبضه ” ورويا بسندهما أيضاً عن ابن عباس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ” من إبتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ” . قال ابن عباس : ” وأحسب كل شيء مثله ” ورويا عن ابن عمـرأنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا اشتروا طعاماً جزافاً  أن يبيعوه في مكانه , حتى يحولوه [1] ,  ولا شك أن تخصيص الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له .

 

والواقع أن قول ابن عباس ” وأحسب كل شيء مثله ” اجتهاد محض منه لايكون حجة على اجتهاد غيره , ولذلك أورده البخاري مع أنه ترجح للباب ” باب بيع الطعام قبل أن يقبض …. ” [2] بل إن بعض روايات الحديث جاءت بالمختصر[3]  .

 

وهذا الحصر على الطعام هو الذي يؤدي إلى الجمع بين الأدلة الواردة بهذا الشأن , بحيث تحمل عليه الأحاديث الخاصة بالنهي عن البيع قبل القبض , وتحمل الأحاديث الواردة الدالــة على جواز التصرف في المبيع ونحوه قبل القبض على غيرالطعام , وهذا هو الذي سار عليه الإمام البخاري حيث أورد : باب إذا اشترى متاعاً , أو دابة فوضعه عند البائع , أو مات قبل أن يقبض  وقال ابن عمر ( رضي الله عنهما ) : ” ما أدركت الصفقة حيّاً مجموعاً فهو من المبتاع ” . ثم أورد حديث عائشة في قصة الهجرة , وفيهما ” قال أبو بكر : يا رسول الله , إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج , فخذ أحدهما . قال : قد أخذتهما بالثمن ” [4]  .

 

قال ابن المنير : ” مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن البخاري أراد أن يحقق إنتقال الضمان في الدابة ونحوها إلى المشتري بنفس العقد , فاستدل لذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” قد أخذتهما بالثمن ” وقد علم أنه لم يقبضها بل أبقاها عند أبي بكر , ومن المعلوم أنه ما كان ليبقيها في ضمان أبي بكر , لما يقتضيه مكارم أخلاقه حتى يكون الملك له , والضمان من غير قبض ثمن , ولا سيما في القصة ما يدل على إيثاره لمنفعة أبي بكر حيث أبى أن يأخذها إلا بالثمن [5] .  

 

وأيضاً يدل على ذلك ما رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر , حيث يدل على أن ما يدرك العقد حياً مجموعاً – أي لم يتغير عن حالته – فهو من ضمان المشتري , وهذا رأي ابن عمر , قال الطحاوي : ” ذهب ابن عمر إلى أن الصفقة إذا أدركت شيئاً حياً فهلك بعد ذلك عند البائع فهو ضمان المشتري فدل على أنه كان يرى أن البيع يتم بالأقوال ….. ” [6] .

 

ومن الجدير بالإشارة إلى أن أكثر القائلين بجعل التفرقة في البيع قبل القبض بين ما يكال , أو يوزن , وبين غيره أول كلامهم وحمل على الطعام وغيره , يقول ابن قدامة : ” ويحتمل أنه أراد المكيل والموزون , والمعدود من الطعام الذي ورد النص بمنع بيعه ” ثم علق على هذا الحمل فقال : ” وهذا أظهر دليلا ً , وأحسن ” .

 

وقد استدل المخالف بأدلة لا يخلو جميعها إما من ضعف في سندها , أو أنها ليست نصاً في دلالتها على منع المبيع غير الطعام , فمثلا ً استدل القائلون بالمنع مطـلقاً بالحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن حكيم بن حزام أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) قـال له : ” يا ابن أخي إذا إبتعت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه ” [7] ,  فهذا الحديث لا ينهض حجة , لأن جميع طــرقه لا تخلو من مقال وضعف [8] ,  ولا سيما أن الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس قد رواه بطريق الحصر حيث يقول : ” أما الذي نهى عنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو الطعام أن يباع حتى يقبض ” [9]  ,  فلو كان ابن عباس – وهومن هو – لو وصله خبر ثابت لما حصره هذا الحصر .

 

وهناك أحاديث أخرى ثابتة لكنها لا تدل على هذه الدعوى بوضوح منها : ما رواه أحمد , والنسائي , والترمذي , وابن ماجه والحاكم بسندهم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) نهى عن ربح ما لم يضمن , وفي بعض الروايات ” لا يحل سلف وبيع …. ولا ربح ما لم يضمن ” [10]  وقد فسروا هذا الحديث بأنه يعني : الربح الحاصل من بيع ما اشتراه قبل أن يقبضه , وينتقل من ضمان البائع إلى ضمانه , فإن بيعه فاسد [11]  .

 

ولكن الحديث صريح في النهي عن ربح ما لم يضمنه , تطبيقاً لقاعدة ” الخراج بالضمان ” [12] وهذا إنما ينطبق على مسألتنا إذا كان القائلون بجواز بيع المبيع غير الطعام – أو غير المكيل والموزون , أو غير المنقول . لا يذهبون إلى أن المشتري ضامن بالعقد , في حين أن هؤلاء يذهبون إلى أن الضمان ينتقل في غير هذه الأشياء إلى المشتري بمجرد العقد , وحينئذ لم يكن الدليل في محل الدعوى فيصادر عليه فلا يقبل , يقول الخرقي : ” وما عداه – أي ما عدا المكيل والموزون –  فلا يحتاج إلى قبض . وإن تلف فهو من مال المشتري  ” وعلق عليه ابن قدامة فقال : ” ولنا قول النبي (صلى الله عليه وسلم ) ” الخــراج بالضمان ” وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه , وقول ابن عمر : ” مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجــموعاً فهو من مال المبتاع “– أي المشتري – ,  ولأنه لا يتعلق به حق توفية , وهو من ضمانه قبل قبضه , فكان من ضمانه قبلـه كالميراث , وتخصيص النبي (صلى الله عليه وسلم ) الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه دليل على مخالفة غيره له ” [13]  .

 

بل إن هذا الاستدلال في محل الخلاف نفسه , فأصل هذه المسألة يعود إلى مدى إشتراط القبض , ومدى جواز التصرف قبل القبض , والتفاصيل فيه , يقول ابن حبيب :  ” اختلف العلماء فيمن باع عبداً وإحتبسه بالثمن فهلك في يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن , فقال سعيد بن المسيب وربيعة : هو على البائع , وقال سليمان بن يسار : هو على المشتري , ورجع إليه مالك بعد أن كان أخذ بالأول , وتابعه أحمد واسحاق وأبو ثور , وقال بالأول الحنفية والشافعية , والأصل في ذلك اشتراط القبض في صحة البيع , فمن اشترطه في كل شيء جعــله من ضمان البائع , ومن لم يشترطه جعله من ضمان المشتري والله أعلم [14]  .

 

وهكذا لو استعرضنا جميع أدلتهم التي وفقت في الاطلاع عليها لوجدناها إما ضعيفة لا تنهض حجة , أو أنها ليست نصاً في الدعوى , والقاعدة المعروفة تقول : ” والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال ” .

 

ومن جانب آخر إن الأدلة الصحيحة تدل على جواز إجراء بعض العقود على المبيع قبل القبض منها ما رواه البخاري وغيره بسندهم عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : ” كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) في سفر فكنت على بكر صعب لعمر …. فقال النبي لعمر : ” بعنيه ”  قال : ” هو لك يا رسول الله ….. .. قال رسول الله : ” بعنيه فباعه …… فقال : ” هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت , حيث يدل الحديث على أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )  قد اشترى الجمل , وأهداه قبل القبض , لأن ابن عمر الذي كان راكباً عليه بأمر والده كان لا يزال على جمله فلم تتم التخلية , ومع ذلك أهداه إليه , يقول الحافظ ابن حجر : ” لأن النبي (صلى الله عليه وسلم ) تصرف في البكر بنفس تمام العقد …… واستفيد من الحديث أن المشتـري إذا تصرف في المبيع ولم ينكر البائع كان ذلك قاطعاً لخيار البائع كما فهمه البخاري , والله أعلم .

 

 

 

 وقال ابن بطال : أجمعوا على أن البائع إذا لم ينكر على المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه بيع جائز ” وعلق عليه الحافظ فقال : ” وليس الأمرعلى ما ذكره من الإطلاق , بل فرقوا بين المبيعات , فاتفقوا على منع بيع الطعام قبل قبضه ” واختلفوا فيما عداه .. [15].

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ” والدليل على ذلك أن الثمن يجوز الاعتياض عنه قبل قبضه بالسنة الثابتة عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال ابن عمر : ” كنا نبيع الإبل بالنقيع – بالنون سوق المدينة , وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب ونقضي الورق , ونبيع بالورق , ونقضي الذهب , فسألت النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : ” لا بأس إذا كان بسعر يومه , إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ” فقد جوز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعتاضوا عن الدين الذي هو الثمن بغيره مع أن الثمن مضمون على المشتري لم ينتقل إلى ضمان البائع , فكذلك المبيع الذي هو دين السلم يجوز بيعه , وإن كان مضموناً على البائع لم ينتقل إلى ضمان المشتري , فعلى ضوء ذلك لا مانع من وجود الضمان على البائع مع جواز بيع المبيع قبل قبضه , ولذلك أجاز جماعة من الفقهاء بيع الثمرة على الشجرة بعد بدو صلاحها مع أنها لا تزال على الشجرة وفي ضمــان البائـع , واسـتدلوا بحـديث مسـلم عن جـابر عن النـبي ( صلى الله عليه وســلم ) قال : ” إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً  ” [16] ,  يقول ابن القيم في هذه المسألة ” لأنها ليست في حكم المقبوض من جميع الوجوه , ولهذا يجب عليه تمام التسليم بالوجه المحتاج إليه , فلما كانت مقبوضة من وجه غير مقبوضة من وجه رتبنا على الوجهين مقتضاها , وهذا من ألطف الفقــه [17]  .

 

وقد ذكر العلامة ابن القيم إثني عشر عقداً أجاز فيها الفقهاء المانعون أيضاً بيع الشيء قبل قبضه وهي :

1- بيع الميراث قبل قبض الوارث له .

2- إذا أخرج السلطان رزق رجل فباعه قبل أن يقبضه .

3- إذا عزل سهمه فباعه قبل أن يقبضه .

4- ما ملكه بالوصية , فله أن يبيعه بعد القبول وقبل القبض .

5- غلة ما وقف عليه , حيث له أن يبيعها قبل قبضها .

6- الموهوب للولد إذا قبضه , ثم استرجعه الوالد , فله أن يبيعه قبل قبضه .

7- إذا أثبت صيداً , ثم باعه قبل القبض جاز .

8- الاستبدال بالدين من غير جنسه هو بيع قبل القبض .

ويدل عليه حديث ابن عمر[18] ,  قال ابن القيم : ” نص الشافعي على الميراث , والرزق يخرجه السلطان , وخرج الباقي على نصه ” .

9- بيع المهر قبل قبضه جائز , وقد نص أحمد على جواز هبة المرأة صداقها من زوجها قبل قبضه .

10-  إذا خالعها على عوض جاز التصرف فيه قبل قبضه , حكاه صاحب المستوعب وغيره  وذكر أبو البركات في المحرر أنه لا يجوز .

11- إذا أعتقه على مال جاز التصرف فيه قبل قبضه , حكاه صاحب المستوعب .

12- إذا صالحه عن دم العمد بمال جاز التصرف فيه قبل قبضه , وكذلك إذا أتلف له مالا ً , وأخرج عوضه ومنع صاحب المحرر من ذلك كله .

 

وقد ذكر كذلك جواب المانعين عن هذه الصور والفرق بينها وبين التصرف في المبيع قبل القبض بأن الملك غير مستقر , فلم يسلط على التصرف في ملك مزلزل , بخلاف هذه الصور حيث أن الملك فيها مستقر غير معرض للزوال [19] .

 

ونقصد بذكر هذه الصور أن مسلك هؤلاء المانعين منعاً مطلقاً ليس عاماً , وسائراً على طريقة واحدة , فهم كلهم , أو بعضهم أجازوا هذه الصور أو بعضها مما يضعف مسلكهم , بل إن تعليلهم يضعف الملك قبل القبض وحتى لا يؤدي إلى توالي الضمانين ليس مقنعاً , ولا مسلماً على إطلاقه , وأنه لا يوجد في الشرع , ولا في العقل مانع من كون الشيء مضموناً على الشخص بجهة , ومضموناً له بجهة أخرى , ولذلك يقول مالك , وأحمد في المشهور من مذهبه : ما يمكن للمشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري , وحينئذ له الحق في التصرف فيه , بالإضافة إلى أن جواز التصرف ليس ملازماً للضمان [20]  .

 

ثم إن الذي تقتضيه القواعد العامة لشريعتنا الغراء هي أن العقود – ولا سيما المالية – تتم , وتـلزم بالايجاب والقبول – مع بقية الشروط المطلوبة , وبالتالي تترتب عليها الآثار الشـرعية فلا ينبغي الاستثناء منها إلا ما يدل الدليل الصحيح على استثنائه , وفي نظرنا فهذا محصور في الطعام فلا يجوز بيعه ولا التصرف فيه قبل القبض , وفيما عداه يبقى على القاعدة العامة والله أعلم . ثم إن لفظ ” الطعام ” قد ثار حوله الخلاف في بيان ماهيته وحقيقته , حيث ذهب بعضهم  إلى أن المراد به هو الحنطة فقط وذهب آخرون إلى أن المراد به هو ما يعد في الغرف للأكل والاقتيات , يقول ابن منظور : ” وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة … وقال ابن الأثير :  الطعام عام في كل ما يقتات من الحنطة , والشعير , والتمر وغير ذلك ” وذهب بعضهم إلى أن المراد به التمر فقط [21] ,  وقد ورد لفظ ” طعام ” في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره ,  عن أبي سعيد الخدري في مقابل ( شعير ” مما يدل على أنه غيره حيث قال : ” كنا نعطيها في زمان النبي ( صلى االله عليه وسلم ) صاعاً من طعام , أو صاعاً من تمر  أو صاعاً من شعير , أو صاعاً من زبيب ” [22] , قال الحافظ ” حكى الخطابي أن المراد بالطعام هنا الحنطة , وأنه اسم خاص له , قال ويدل على ذلك الشعير وغيره ” [23] ,  لكن ابن المنذر رد عليه , واستشهد بقــول أبي سعيــد الخـدري : ” كنا نخرج في عهــد رسـول الله (صلى الله عليه وسلم ) يوم الفطر صاعاً من طعام , وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ” [24] ,  ولذلك فالراجح هو أن الطعام يشمل كل ما يعد للقوت سواء أكان حنطة أم غيرها .

  

وإذا كنا نحن رجحنا جواز التصرف في المبيع قبل القبض في غير الطعام فإن ذلك مقيد بقدرة المشتري على إيصال الحق إلى صاحبه الجديد , وبعبارة أخرى : التمكن من القبض , وإن لم يتم القبض , يقول ابن القيم : ” وأما مالك وأحمد في المشهور من مذهبه فيقولان : ما يمكن المشتري من قبضه وهو المتعين بالعقد فهو من ضمان المشتري , ومالك وأحمد يجوزان التصرف فيه , ويقولان : الممكن من القبض جار مجرى القبض على تفصيل في ذلك , فظاهر مذهب أحمد أن الناقل للضمان إلى المشتري , هو التمكن من القبض , لا نفسه … [25] .

 

ولذلك علل الشافعية وغيرهم في تجويزهم بيـــع الأرزاق التي يخرجها السلطان قبل قبضها بأن يد السلطان يد حفظ , فتكون مثل يد المقر له , ويكفي ذلك لصحة البيع [26] ,  ولهذا السبب أيضاً يجوز بيع الضال والمغصوب لمن يقدرعلى انتزاعه , ولا يجوز لغيره [27] ,  ولهذا السبب نفسه يقول ابن القيم : ” فإن قيل : فأنتم للمغصوب منه أن يبيع المغصوب لمن يقدر على إنتزاعه من غاصبيه , وهو بيع ما ليس عنده .

 

قيل :  لما كان البائع قادراً على تسليمه بالبيع , والمشتري قادراً على تسلمه من الغاصب ,  فكـأنه قد باعه ما هو عنده , وصار كما لو باعه مالا ً , و هو عند المشتري وتحت يده , و ليس عند البائع  و العندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة , فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يـــده و مشاهدته , و إنما هي عندية الحكم و التمكين …..[28] .

 

وقد أثار بعض الفقهاء العلة في التفرقة بين الطعام وغيره فذكر بعضهم أنها تعبدية , وذكر الآخرون بأنها معللة بأن غرض الشارع سهولة الوصول إلى الطعام , ليتوصل إليه القوي والضعيف , ولذلك منع فيه الاحتكار وشدد فيه الإسلام دون غيره , فلو جاز قبل قبضه لربما أخفى بإمكان شرائه من مالكه , وبيعه خفية فلم يتوصل إليه الفقــير [29] .

 

وذكر الإمام أبو محمد المنبجي الحنفي أن المعنى الذي نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن بيع الطعام قبل القبض لأجله هو غرر انفساخ العقد بهلاك المعقود عليه قبل القبض , والهلاك في العقار نادر[30]  .

 

وقد اعترف شيخ الإسلام ابن تيمية بغموض هذه المسألة وعلتها ولذلك كثر فيها تنازع الفقهاء , ومال أكثرهم إلى التمسك بظاهر النصوص دون الركون إلى العلة [31] .

 

والذي يقتضيه مجموع الأدلة هو الوقوف عند ما ورد فيه النص الصحيح الخالي عن المعارضة , وهو منع بيع الطعام قبل قبضه وجوازه في غيره لما ذكرنا .

 

وقد أجاب القرافي عن أدلة المانعين عن بيعه قبل القبض مطلقاً , حيث حمل أحاديثهم على بيع ما ليس ملكاً لبائعه , لأنه غرر , أما المعقود عليه فقد حصل فيه ملك بالعقد , وبالتالي فما دام متمكناً من القبض فما المانع من التصرف فيه ؟ ثم بين الفرق بين الطعام وغيره فقال : ” إن الطعام أشرف من غيره لكونه سبب قيام البنية وعماد الحياة فشدد الشرع على عاداته في تكثير الشروط فيما عظم شرفه كاشتراط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع , وشرط في القضاء ما لم يشترطه في منصب الشهادة ” , ثم يتأكد ما ذكرناه بمفهوم نهيه (عليه الصلاة و السلام ) عن بيع الطعام حتى يستوفى , ومفهــومه أن غير الطعام يجوز بيـــعه قبل أن يستوفى , وقولــه تعالى : { وأحل الله البيع  ….} [32]  .

 

وقد ردّ ابن تيمية في مسألة بيع ما لم يضمن على عدم وجود التلازم بين الضمان , و جواز التصرف , و قال : ” وأصول الشريعة توافق هذه الطريقة , فليس كل ما كان مضموناً على شخص كان له التصرف فيه كالمغصوب , والعارية , وليس كل ما جاز التصرف فيه كان مضموناً على المتصرف كالمالك له أن يتصرف في المغصوب والمعار, فيبيع المغصوب من غاصبه وممن يقدر على تخليصه منه وإن كان مضموناً على الغاصب , كما أن الضمان بالخـراج فإنما هو فيما إتفق ملكـاً ويـداً , وأما إذا كان الملك لشخص واليد لآخر فقد يكون الخراج للمالك , والضمان على القابض ” كما ذكرعدة أمثلة أخرى في باب الإجارة , وبيع الثمار , ونحوهما , كما ذكر أن النصوص خاصة ببيع الطــعام قبــــل قبضه , أو توفيته , ومن هنا تبقى بقية التصرفات على الإباحة , حيث يقول : ” وأيضاً فليس المشتري ممنوعاً من جميع التصرفات  بل الســـنة إنمــا جــاءت في البـيع خـاصـة , ولو أعتــق العبـد المبيـع قبـل القبـض فقد صح إجماعاً …. ” [33]. 

 

ثم إن جميع التصرفات ليست كالبيع , لأن النص وارد فيه فقط , وتبقى بقية التصرفات على الجواز , يقول ابن بطال : ” أجمعواعلى أن البائع إذا لم ينكرعلى المشتري ما أحدثه من الهبة والعتق أنه جائز , واختلفوا فيما إذا أنكر ولم يرض , فالذين يرون أن البيــع يتم بالكـــلام دون إشتراط التفرق بالأبدان يجيزون ذلك , ومن يرى التفرق بالأبدان لا يجيزونه والحديث – أي حديث ابن عمر في البخاري – حجة عليهم ” [34] ,  ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ” وأيضاً فليس المشتري – أي قبل القبض – ممنوعاً من جميع التصرفات , بل السنة إنما جاءت في البيع خاصة  ولو أعتق العبد المبيع قبل القبض فقد صح إجماعاً …..[35]  .

 

ومن جانب آخر إن هذا المنع خاص بالمبيع عند جمهــــور الفقهاء , أما الثمن فيجوز التصرف فيه – من غير الصرف – قبل القبض عندهم [36] ,  وهذا أيضاً تضييق لدائرة المنع , وحصر لها فيما ورد فيه النص وهو المبيع دون الثمن , وهذا يؤكد على أن الأصل الحل , فجاء النص الصريح الثابت فمنع من بيع الطعام قبل القبض , وبقيت بقية التصرفات على الحل والإبــاحة والله أعلم .


 


([1]) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب البيوع باب بيع الطعام قبل أن يقبض (4/349, 350) ومسلم , البيوع    (3/1159)    الحديث 1525, 1526, 1527, 1528, 1529, وأحمــــــد ( 1/56 , 270, 2/22, 64, 3/392) .

([2]) نفس المصادر السابقة .

([3]) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع (4/349) حيث روي عن ابن عباس يقول : ” أما الذي نهى عنه النبي (صلى الله عليه وسلم ) فهو الطعام أن يباع حتى يقبض ” فهذا الحصر دليل على ما قلناه .

([4]) صحيح البخاري – مع الفتح – البيوع ( 4/351) .

([5]) فتح الباري (4/351- 352) .

([6]) المصدر السابق (4/352) وذكر الحافظ أن هذا التعليق وصله الطحاوي والدارقطني .

([7]) أنظر : مسند أحمد (3/402) والسنن الكبرى (5/313) .

([8]) نصب الراية (3/32) والمحلى (9/593- 54) وراجع : جوهر النقى على السنن الكبرى حيث حكم بضعفه (5/313) وقال : ” كيف يكون حسناً , وابن عصمة متروك … , وفي الأحكام لعبد الحق : ضعيف ” .

([9]) صحيح البخاري – مع الفتح – (4/349) ومسند الشافعي (1252) والطحاوي (2/218) .

([10]) النسائي , البيوع (7/295) الحديث (4630) , والترمذي – مع شرحه تحفة الأحوذي (4/431) الحديث (1252) , وابن ماجه (2/738) الحديث (2188) , والحاكم في المستدرك (2/17) وقال : صحيح ووافقه الذهبي .

([11]) تحفة الأحوذي (4/431) .

([12]) رواه أحمد في مسنده (6/49, 208, 237) والترمذي في سننه – مع تحفة الأحوذي – (4/507) والنسائي (7/223) وابن ماجه (2/754) وأبو داود في سننه – مع عون المعبود – (9/415, 417, 418) . قال الترمذي (4/508) وهذا حديث صحيح … والعمل على هذا عند أهل العلم .

([13]) المغني (4/124- 125) .

([14]) فتح الباري (4/352) والمصادر الفقهية السابقة في المسألة الأولى .

([15]) فتح الباري (4/335) ودعوى الاتفاق على منع بيع الطعام قبل قبضه غير دقيقة لما ذكرنا في الخلاف .

([16]) مجموع الفتاوى , ط . السعودية (29/505 – 510) .

([17]) شرح ابن القيم على سنن أبي داود , المطبوع بهامش عون المعبود (9/410… ) .

([18]) روى أحمد (2/33, 83) وابن ماجه (الحديث 2262) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/44) بسندهم عن ابن عمر (رضي الله عنهما ) قال : ” كنا نبيع الابل بالنقيع – بالنون سوق المدينة , وبالباء مقبرتها – كنا نبيع بالذهب , ونقضي بالورق … فسألت النبي (صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال : لا بأس إذا كان بسعر يومه , إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ” .

([19]) شـرح ابن القيـم على سنن أبي داود (9/386- 388) الفروق (3/282- 283) وبــــــدائع الصنائع (8/3101) والمجموع شرح المهذب (9/270- 271) والمغني لابن قدامة (4/121) .