في تعريفه للأمن الشامل، وما يشكله الأمن الروحي والفكري في مقاصد الشريعة، وتشخيصه لحالة الإرهاب في العالم، يرى نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور علي محيي الدين القرة داغي، أن محاولة بعض القوى والأشخاص ربط الإرهاب بالدين الإسلامي هي محاولة يائسة، تختلف مع الواقع الذي سجّل لجوء بعض أتباع جميع الديانات إلى التطرف وارتكاب فظائع باسم دياناتهم، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى اجتماع العلماء والأحبار والرهبان من كل الديانات لتصحيح الأخطاء، ووضع استراتيجية جامعة حكيمة لمكافحة الإرهاب، تخلص الإنسانية من العنف والعنف المضاد.
يقول القره داغي: إن العالم بأجمعه يعاني اليوم من الاضطرابات الفكرية ومن الإرهاب الفكري والعملي بشكل منذر بشرِّ مستطير، حيث نشاهد أوضاعاً مأساوية في معظم بلاد العالم المتقدم، والمتوسط والمتخلف، فلم تعد دولة بمنأى عن الإرهاب والترويع، والتفجيرات التي تُودي بحياة الآلاف من الأبرياء في العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا وغيرها.
ولا يقتصر انتهاك حقوق الإنسان، والاعتداء على أمنه وكيانه، ولا القتل والتدمير على مناطق الحروب التي ذكرناها، وإنما شمل ذلك معظم بلاد العالم، حيث يشاهد العالم جرائم الصهاينة المحتلين ضد الفلسطينيين في القدس والضفة، وغزة، وهم ينتسبون إلى اليهود.
كما نرى في ميانمار (بورما) تطهيراً عرقياً ودينياً للشعب الروهينجي المظلوم، الذي صنفته الأمم المتحدة كأكثر شعوب العالم مظلومية وقتلاً وتهجيراً على أيدي من ينتسبون إلى الديانة البوذية، بل يتعرض هذا الشعب للإبادة الجماعية والتهجير القسري داخل بلاده، والذين يخرجون من هذا الجحيم يتعرضون لمخاطر الموت والمجاعة، والاعتداء على الأعراض، والبيع والشراء لأعضائهم من قبل سماسرة مجرمين، ناهيك عن العدوان المنظم على المسلمين في إفريقيا الوسطى ومحاولة القضاء عليهم بالقتل والحرق، والتهجير القسري ونحو ذلك على أيدي من ينتسبون إلى الديانة المسيحية، دون أن ننسى ما فعله الصرب بالمسلمين من جرائم الحرب التي يندى لها الجبين.
وبالمقابل فإن بعض الجماعات المتطرفة المحسوبة على الإسلام -كداعش والقاعدة- تقوم بالإرهاب والتفجيرات باسم الإسلام، وهي بعيدة كل البعد عن رحمة الإسلام وأخلاقه وقيمه، وتقتل المسلمين وغيرهم، وتهلك الحرث والنسل والتراث وتعيث في الأرض فساداً.
فقد طغت لغة العنف والتدمير والتشريد على لغة الحوار والنقاش والإقناع، كما طغى منطق القوة على قوة المنطق، وسادت لغة الحرب والتهديد والترويع على لغة التسامح، والصلح والتصالح والتعاون على البر والإحسان، وما فيه مصلحة الإنسان.
فهذه المشاكل والحروب والفتن أدت بلا شك إلى حالة من الخوف والقلق، وعدم الإحساس بالأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وزاد الطين بلَّة وجود نسبة كبيرة تتجاوز %35 من سكان العالم تعاني من القلق والاضطراب النفسي والخواء الروحي، بسبب غلبة المادة على الروح، والظاهر على الباطن.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن العالم بدأ يعاني من النعرات النازية والعنصرية، وانتشار خطاب الكراهية والتشدد والغلو من منتسبي جميع الأديان السماوية والأرضية، وهذا يعود سببه المباشر إلى عدم تعاون أصحاب الأديان المعتبرة فيما بينها لعلاج هذه المشاكل، التي لا يمكن أن يعالجها علاجاً شاملاً إلا الأديان، بحيث يجتمع علماؤها ورهبانها وأحبارها على كلمة سواء كما قال الله تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون).
ومن حسن الحظ أن جميع الأديان السماوية متفقة على نبذ الإرهاب المادي والروحي والفكري وإيذاء الإنسان وهدر حقوقه التي منحه الله إياها، لذلك فإن واجبنا اليوم هو أن يتفق أهل الأديان جميعاً على التصدي للإرهاب مهما كان مصدره، فالإرهاب في حقيقته لا دين له، وظهر ويظهر من جميع أصحاب الأديان، حيث رأينا الإرهاب من الصرب وهم مسيحيون أرثوذوكس، وممن ينتسبون إلى الكاثوليك في إفريقيا الوسطى، وكذلك الاعتداءات التي حدثت في معظم بلاد أوروبا، وممن ينتسبون إلى البوذية والهندوسية في ميانمار والهند، وممن يدعون الانتساب إلى الإسلام من الجماعات المتطرفة.
لذا أعتقد أن واجبنا نحن العلماء أن نبيِّن للناس ما يأتي: 1ـــ أن هذا الإرهاب لا دين له، ولا يجوز تحميل أي دين مسؤوليته أو اتهامه به. 2ـــ وأن نفضح حقائق هذه الجماعات الإرهابية، بأن نبيِّن أن قياداتها مخترقة من المخابرات الدولية والإقليمية، وأن هؤلاء الشباب هم الوقود والضحية، ولذلك يجب علينا أن ننقذهم من هؤلاء الإرهابيين. 3ـــ أن تسعى القيادات الدينية لجميع الأديان لتحقيق مزيد من التعاون والتنسيق، لكشف مخاطر الإرهاب، وبعده عن الدين، وبيان حقائق الدين، وأن قتل الأبرياء لا يجيزه أي دين، ولا ضمير ولا قانون. 4ـــ أن نسعى جميعاً جاهدين لإزالة أسباب الإرهاب الديني من الظلم والاستبداد، والفقر والبطالة، وألا يقتصر علاجنا على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل الأهم هو الجانب الديني والفكري، فالمثل العربي يقول: لا يفل الحديد إلا الحديد، وكذلك لا يفل الفكر إلا الفكر. 5ـــ أثبتت التجارب فشل علاج الفكر المتطرف بالقوة وحدها، وفشل علاجه بفكر متطرف آخر، فلا يمكن أن يعالج الفكر الديني المتطرف بفكر علماني متطرف.
وعلينا أن نعلم أن هناك صحوة إسلامية كبرى في العالم الإسلامي، لا يمكن كبتها والقضاء عليها، وإنما يجب علينا جميعاً ترشيدها، ودعم الجماعات المعتدلة لتملأ هذا الفراغ، وإلا ستزداد المنطقة اشتعالا، فالجماعات الإرهابية خفَّ نشاطها وقلَّت حركتها عندما انتصرت ثورة الربيع العربي في تونس ومصر، ونحوهما، إذ أن الشباب زال عنه الإحباط بالنجاح الذي شاهدوه، لكن عندما أُطيحت بالثورة والشرعية في مصر، وازداد بشار الأسد إجراماً، وازدادت الطائفية في العراق، وقتل وشرِّد الكثيرون من السنة عادت القوة للجماعات المتطرفة، وظهرت داعش التي هي أكثر تطرفاً ودموية حتى من القاعدة.
نحن اليوم أمام مفترق الطرق؛ إما أن يتعاون العقلاء والحكماء لعلاج هذه المشاكل بالحكمة والتحاور والجدال بالتي هي أحسن، وعلاج الفكر بالفكر، وإما أن نترك السفينة تغرق أمام أعيننا، مع قدرتنا على إيصالها إلى بر الأمان، فوضع الحلول الجذرية لمشاكل الشباب وإصلاح النظام السياسي، بحيث يكون للشعوب المسلمة الحرية في اختيار من يحكمها، وأن يحكمهم أناس يخافون الله تعالى، ولا يتورطون في الفساد المالي والإداري والاجتماعي، بل يمنعون الفساد بكل أنواعه من خلال فصل السلطات، ووجود رقابة فاعلة، وحينئذ تصرف أموال الشعوب لمصالحها فقط، كل هذه الأمور إذا تحققت ضمن خطة تنموية شاملة تحدُّ من الفقر والبطالة، أو تخِففهما على الأقل، فسيساهم ذلك في تجفيف منابع الإرهاب، بالإضافة إلى حل القضية الفلسطينية التي هي المصدر الأساسي لإثارة الأمة العربية والإسلامية.;