جريدة الوطن القطرية
20/08/2010
يواصل د. على محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (اسباب الفقر ومنهج الاسلام في حل مشكلة الفقر) وعرضنا الآثار السلبية للفقر المدقع، وفي هذه الحلقة يتناول فضيلته الحديث عن (علاج أسباب الفقر من خلال البعد العقائدي والفكري
البعد الأول ـ البعد الأيديولوجي:
ونقصد به البعد العقدي والفكري للاسلام نفسه حول الفقر، وهذا يظهر فيما يأتي:
1- ان الفقر من حيث هو ليس نعمة، وانما هو ابتلاء يجب الصبر عليه وأنه داء يحتاج إلى دواء، ومرض يحتاج إلى شفاء، ولذلك كان يستعيذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه مشكلة جاء الاسلام لحلها، ولكن ان ابتلي به مسلم يوجهه الاسلام للصبر، فيتحول من النقمة إلى النعمة من حيث الأجر والثواب، أما الغنى فهو نعمة ـ من حيث هو ـ يستحق الشكر ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه، ولكن إذا لم يؤد صاحبه حقوقه فيتحول من نعمة إلى نقمة من حيث آثاره ونتائجه، وعلى هذا أدلة الشرع الكثيرة.
هذه النظرة الخاصة المتوازنة يمتاز بها الاسلام، لا تجدها لدى أي نظام، أو دين وصل إلينا، ولها دورها العقدي والفكري والثقافي لتشكيل عقلية المسلم، وتفاعلها، وتفعيلها لحركة الحياة، وبالتالي فيكون لها دورها في حل المشكلة، لأن المسلم مؤمن بأنه جاء لتعمير الكون ولم يأت لمجرد أداء الشعائر التعبدية فحسب، وحينئذ يسعى لتحقيق رسالة التعمير والدنيا كأنه يعيش أبداً، كما أنه يسعى للآخرة كأنه يعيش الآن، فشعار المسلم الذي أرشده القرآن الكريم فقال تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وقال تعالى: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وأن الوقاية من النار بالانفاق ولو بشق تمرة.
إن الغاية من انزال القرآن تحقيق الخير بمعناه الشامل جداً للانسان: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا) وأن الهدف من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم هو تحقيق الرحمة والعدل فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
فهذه العقلية المسلمة التي تؤمن بأن الفقر مشكلة يجب حلها ـ مع الصبر والقناعة في حالة وجوده ـ لا يمكن أن تخدر بالكسل والقعود بحجة القضاء والقدر، بل تعمل ليلاً ونهاراً لتحقيق الغنى وإفادة الناس ـ مع نفس صابرة راضية غير جشعة ولا طامعة في أموال الغير، ولا حاسدة.
وإذا نظرنا إلى جميع أسباب الفقر التي ذكرناها نجد أن الاسلام قضى عليها من الجانب التنظيري والتأصيلي ـ ثم من الجانب التطبيقي خلال فترات من التأريخ الاسلامي ـ وذلك على ضوء ما يأتي:
1) وجوب العمل على القادر، حيث أولى الاسلام عناية قصوى بالعمل، وأمر به كما أمر بالصلاة بنفس الصيغة الآمرة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ حيث أمرنا بالانتشار في الأرض بعد الصلاة مباشرة لطلب الرزق ـ كما سبق ـ. وقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المؤثرة المؤدية إلى العمل، منها القدوة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: كان داود عليه السلام لا يأكل إلاّ من عمل يده وقال: كان زكريا عليه السلام نجاراًَ وفي رواية صحيحة أيضاً: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وان نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده).
2) حرمة السؤال من غير ضرورة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا قبيصة: ان المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة…. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش… ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له مسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال: سداداً من عيش، فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة: سحت، يأكلها صاحبها سحتاً ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه، ويقول أيضاً: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل بوضوح على حرمة المسألة إلاّ للضرورة أو الحاجة الملحة، أو من السلطان لحق، حيث قال صلى الله عليه وسلم: إن المسألة: كدّ، يكدّ بها الرجل وجهه إلاّ أن يسأل الرجل سلطاناً، أو في أمر لا بدّ منه أي أن يسأل السلطان حقه من الزكاة ونحوها.
3) للاسلام منهج متكامل في مسألة المرض، حيث أمر بالوقاية، والحماية، وأمر بالتداوي، والاستفادة من كل دواء فيه شفاء….
4) بالنسبة لثقافة التواكل والكسل وحقارة بعض المهن فإن الإسلام حارب هذه الثقافة تماماً، وقرن العمل والكسب الحلال بالجهاد في الفضل والأجر والثواب.
5) وبالنسبة للأمية والجهل والتخلف فقد حاربها الاسلام ـ كما سبق ـ.
6) وبالنسبة للاحتلال والاستعمار فإن الإسلام يجعل الجهاد فرض عين على أهل المنطقة، ثم على الأمة للتصدي للاحتلال والاستعمار، وإخراجهما عن أرض الإسلام.
7) وبالنسبة للحرب الداخلية والخارجية، فإن الاسلام حرم جميع الحروب إلاّ الحرب للدفاع عن الوطن الاسلامي والدين، ولإعلاء الحق والدفاع عن المظلومين، وحتى في وقت الحروب فإن الاسلام يفرض مواثيق خاصة تتضمن عدم القيام بقطع الأشجار والافساد في الأرض، وعدم إهلاك الحرث والنسل دون وجه حق….
ومنع الاسلام الاضطرابات والحروب الداخلية وأوجب على المسلمين أن تكون وسائل التعبير عن الآراء داخل المجتمع المسلم محصورة في الوسائل السلمية فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة أن لا يرفع السلاح في وجه الأمراء إلاّ أن يروا منهم كفراً بواحاً، فقد ورى البخاري ومسلم وغيرهما بسندهم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية ورووا عن عبادة بن الصامت قال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.
فهذه الأحاديث وغيرها لا تعني الاستسلام للحكام الظلمة المسلمين، وإنما تريد الحفاظ على أمن الدولة والمجتمع بأقصى ما يمكن مع استعمال جميع وسائل التعبير عن الرفض بالكلام والنصح لهم، والمظاهرات، والاعتصام والعصيان المدني الشامل، ونحوها من الوسائل السلمية حيث وردت آيات وأحاديث صحيحة أخرى تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى وجوب النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وكلمة الحق أمام السلطان الجائر، ومنع الظالم من ظلمه، فقد ورد في الحديث الصحيح، قال عبادة: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.. وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم.
8) وبالنسبة للظلم مطلقاً، والظلم المالي فلا نجد ديناً ولا نظاماً أولى العناية بالعدل، ومنع الظلم مثل الاسلام حتى وصلت الآيات التي تتحدث عن العدل، والظلم إلى حوالي ألف آية.
9) وبالنسبة للفساد الاداري والمالي الاقتصادي والسياسي يأتي الحديث عن موقف الاسلام الواضح منه.
10) وأما بالنسبة لمسؤولية الحكومات، فالآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة والآثار المروية عن كبار الصحابة تتحدث عن مسوؤليتها حتى عن الحيوانات.
11) وكذلك الاعتماد على فقه الأولويات يدل عليه عدد من النصوص الشرعية.
البعد الثاني ـ الحلّ الذاتي الداخلي:
حيث يسعى الانسان لحل المشكلة الذاتية داخل كيان الفقير نفسه من خلال ما يأتي:
1. يركز الاسلام في هذا المجال على غرس العقيدة الصحيحة في داخله، وبخاصة الايمان باليوم الآخر وما أعده الله تعالى للانسان في الجنة، وان الدنيا ما هي محطة العبور، والايمان بالقضاء والقدر، والايمان بأن في الفقر والغنى حكماً قد يظهر لنا بعضها، ويخفى علينا الكثير، كما أظهر القرآن الكريم ذلك من خلال قصة سيدنا موسى عليه السلام مع خضر، حيث تبين أن كل ما فعلته يد القدر كان خيراً ومصلحة، وقد أكد القرآن الكريم من خلال مجموعة من الآيات على أن الخير فيما اختاره الله تعالى فقال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
2. وبهذه العقيدة يتحقق للفقير داخلياً الطمأنينة والرضا، والصبر والقناعة، وأن نعم الله تعالى كثيرة عليه، فقد يكون قد حرم من نعمة الغنى ولكنه عوض بنعم أخرى لا تعد ولا وتحصى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وبعبارة موجزة التركيز على التربية العقدية والروحية، والتزكية الأخلاقية الداخلية للفقير، التي تجعله مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره على الجوع والفقر، وبصحبه الكرام، وبخاصة أهل الصفة، وقناعتهم، وصبرهم، وعفتهم وزهدهم حتى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).
وبذلك تتحول النقمة إلى النعمة، والحسرة إلى الفرحة، والشقاوة إلى السعادة، ويصبح الفقير سعيداً حتى ولو لم يجد المال الكافي.
3. غرس قيم الصبر والزهد والقناعة والرضا:
يركز الاسلام على العناية القصوى بالآخرة، باعتبارها المرجع والمآل، والدار الخالدة، وأن الدار الدنيا هي متاع الغرور، وعلى غرس القناعة والرضا والصبر، وعلى ذلك تدل مئات الايات والأحاديث، منها قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) وقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).