جريدة الوطن – الدوحة

يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (مبادئ الإسلام فى وضع المال و النظام المالي والسياسة المالية في الاقتصاد الإسلامي) وتطرقنا لقضية الزهد في الدنيا واستخدام المال كمجرد وسيلة وليست غاية، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن تحول الفكر المالي إلى علم مستقل للمالية :

 

معادلة دقيقة

ويقوم ريكاردو بمعادلة بين الضرائب وإنتاج الدخل موضحاً أنها جزء يقتطع من رأس المال، أو الدخل، فإذا كان إنفاق الحكومة يتم تمويله عن طريق فرض ضرائب إضافية مع زيادة الإنتاج، أو خفض نفقات الاستهلاك فإن عبء الإنفاق في هذه الحالة يقع على الدخل دون المساس برأس المال، وإلاّ فإنه يقع على عاتق راس المال، وفي هذه الحالة الأخيرة إذا لم يتم خفض الإنفاق، ولم يزد الإنتاج فإنه يؤدي إلى تدهور الاقتصاد بصورة عامة، أي قلة الإنتاج، وخفض الدخول، وقلة حصيلة الضرائب.

وفي نظر ريكاردو فإن فرض الضرائب لا بدّ أن يقلل حتماً من معدل التراكم الرأسمالي إذا نظرنا إلى الأثر الكلي النهائي لفرض الضرائب بالإضافة إلى أنه يقلل من الحافز على الاستثمار، ويذكر لذلك عدة أمثلة في كتابه المشار إليه.

وعلى عكس آدم سميث شجع ريكاردو استخدام المالية العامة بغرض إعادة التوزيع للدخل القومي باستخدام المدفوعات التحويلية، أو الضرائب السالبة على الدخل التي تستقطع من أصحاب الدخول والملاك لصالح فئات الشعب، كما أنه أشار إلى فكرة توجيه جزء من الدخل القومي إلى المنشآت الخيرية والدينية في إطار عملية التوزيع.

تحول الفكر المالي إلى علم مستقل للمالية

وقد تم تحوّل الأفكار المالية إلى علم مستقل للمالية على يدي (جون ماينارد كينز) وجون هيكس حيث وضعا اللبنات الأساسية لهذا العلم، وبذلك وضعت نهاية للفكر الكلاسيكي القديم، ونحن هنا نوجز القول في آراء كينز التي أصبحت تعرف بالمدرسة الكينزية، ثم طورت هي أيضاً على أيدي اقتصاديين معاصرين سميت الرؤية الكينزية الحديثة.

أ ـ آراء كينز المالية:

ألف كينز في عام 1935 كتابه الشهير (النظرية العامة للتوظف العمالة، والفائدة، والنقود) في الوقت الذي كان الكساد والبطالة يسودان العالم الغربي، ودعا الاقتصاديين في مقدمته إلى تطبيق هذه النظرية للوصول إلى حلول للمشاكل المستعصية في هذا العصر، مما حدا بهم إلى العناية به وجاءت معظم نتائج التطبيق موافقة لكثير مما احتوى الكتاب مما ساعد على الخروج من الأزمة.

والذي يهمنا هنا هو شرح هذه النظرية من خلال عناصرها الثلاثة المتعلقة بالفكر المالي بإيجاز شديد:

ا ـ الطلب الفعّال، حيث عرفه بأنه قيمة الطلب المتحقق عندما تتقاطع دالّة الطلب الكلّي مع دالة العرض الكلّي، وذلك لأن دالة الطلب إذا كانت أكبر من دالة العرض فإنه يوجد حافز لدى المنظمين لزيادة العمالة إلى مستوى أكبر من العدد الموجود فعلاً في عمليات الإنتاج، كما يمكنهم زيادة التكلفة من خلال المنافسة بينهم للحصول على عناصر الإنتاج إلى النقطة التي يتحقق عندها توظيف العمال في حالة تعادل الطلب الكلي مع العرض الكلي. وذكر كينز أن الطلب الفعال لا يعبر عن قيمة توازن فريدة بين العرض والطلب، وإنما يعبر عن مدى معين تتحقق من خلاله عدة قيم متساوية، ومقبولة، كما أن النفع الجدي، وبعبارة أخرى فإن التنافس بين المنتجين، أو المنظمين تؤدي دائماً إلى مزيد من التوظيف، والتوسيع في الإنتاج إلى النقطة التي عندها تنعدم مرونة المعروض من الناتج، ولا تؤدي إلى زيادة قيمة الطلب الفعال إلى أية زيادة في الناتج، وينطبق هذا التحليل نفسه على حالة التوظف الكامل التي تعبر عن حالة تنعدم فيها مرونة التوظف الكامل نتيجة زيادة الطلب الفعال على الناتج المتحقق من هذه الزيادة. ومن هنا يرى كينز أن زيادة التوظف تؤدي إلى زيادة الدخل الكلي الحقيقي، وأن زيادة الدخل الكلي الحقيقي تؤدي إلى زيادة الاستهلاك، ولكن ليس بنفس الزيادة في الدخل، حيث إن ذلك يتوقف على الميل للاستهلاك في المجتمع.

ولذلك فإن توازن مستوى التوظف أي توقف المنتجين عن زيادة، أو نقص التشغيل يعتمد على كمية الاستثمارات الجارية التي تعتمد أيضاً على الرغبة فيها التي تعتمد بدورها على العلاقة بين الكفاءة الحدية لرأس المال وأسعار الفائدة على القروض، أو الأرباح المحققة، فالتوازن في مستوى التشغيل يتوقف على ميل معين للاستهلاك، ومعدل الاستثمارات الجديدة حيث يتساوى ثمن العرض الكلي من الناتج المحلي مع ثمن الطلب الكلي. وبيّن كينز أن نظريته العامة في التوظف في حالة التوازن يتوقف تحقيقه على ثلاثة أسس، وهي: دالة العرض الكلي، والرغبة للاستهلاك، وحجم الاستثمار، حيث يحدد الأخيران معاً حجم التوظف في المجتمع عند مستوى معين من الأجور الحقيقية. يقول الدكتور حمدي عبد العظيم: ( وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن كينز قد أولى اهتماماً كبيراً بإخضاع اتجاه الميل للاستهلاك والعلاقة بين مستوى الدخل الحالي، ومستوى الدخل المستقبل، لأثر التوقعات التي يحكمها قانون سيكلوجي رئيس إلاّ أنه يعتقد في أهمية أثر التوقعات على العلاقة بين الدخل الحالي، والدخل المستقبل في بعض الحالات الفردية فقط، وليس على المستوى القومي ).

2ـ المضاعف: هو الأداة التي يمكن أن توضح لنا مدى احتياجات المجتمع من التوظف الذي يكفي لزيادة الدخل الحقيقي اللازم لتوفير المدخرات الاضافية المستخدمة في عمليات التوظف التالية، وهو يعبر عن علاقة بين إجمالي التوظف، والدخل، ومعدل الاستثمارات في وجود ميل معين للاستهلاك في المجتمع، حيث يمكن الوصول إليه من خلال دراسة العلاقة بين الدخل والاستثمار في ظل اعتبارات معينة، والعلاقة بين التوظف والتوظف الإجمالي، والتوظف المباشر في مجال الاستثمارات، أي التوظيف المبدئي. وهذه الفكرة ابتدعها كاهن (Kahn) لبيان العلاقة بين الاستثمار المحلي والبطالة، مبيناً أن التغير في حجم التوظف يعتبر دالة للتغير الصافي في حجم الاستثمارات في ظل ميل معين للاستهلاك، ولكن كينز يرى أن الزيادة الصافية في الاستثمار تؤدي أولاً إلى زيادة في التوظف المبدئي في الاستثمارات الصناعية، ثم إلى زيادة صافية في إجمالي التوظف في المجتمع موضحاً أنه يمكن أن تحدث زيادة إجمالي التوظف في حالة خفض الميل للاستهلاك نتيجة بعض الدوافع النفسية، وفي أعقاب حروب خاصة. وذكر كينز مثالاً من خلال أنه إذا أدت الدوافع النفسية للأفراد إلى استهلاك تسعة أعشار الزيادة المحققة في الدخل مثلاً فإن المضاعف يكون (10) وأن إجمالي التوظف الناتج عن زيادة الأشغال العامة مثلاً تكون عشرة أمثال التوظف المبدئي الذي نتج عن الأشغال العامة نفسها بفرض عدم خفض الاستثمارات في مجالات أخرى. وأكد كينز بعض المخاطر السلبية للمضاعف موضحاً أن ما يترتب على زيادة التوظف من زيادة الأعمال وارتفاع الأسعار يمكن أن يؤدي إلى زيادة سعر الفائدة، وبالتالي الحدّ من الاستثمار ما لم تلجأ السلطات النقدية إلى اتخاذ إجراءات عكسية، وتخفيض سعر الفائدة لخفض تكلفة إنتاج السلع الرأسمالية، وزيادة الكفاءة الحدية للاستثمار.

3ـ المتغيرات:

حدد كينز أثر المتغيرات المستقلة في نظريته بحسب العوامل والرغبات النفسية الثلاث، وهي: الميل النفسي للاستهلاك، وتحقيق السيولة، والتوقعات لعوائد الاستثمار، بالاضافة إلى سعر الأجور حسبما تحدده المفاوضات بين العمال وأرباب الأعمال، وكمية النقود حسبما يحددها المصرف المركزي، حيث تحدد هذه المتغيرات مستوى الدخل القومي، وحجم التوظف ولكن مع إخضاعها لمزيد من التحليل، ثم قام كينز بدارسة وتحليل عدة فرضيات لاستقرار التوظف.

وأخيراً فإن كينز صرح في كتابه أن هذه الحلول خاصة بالمجتمع الرأسمالي حيث عالج فيه مشاكل العالم الغربي الرأسمالي، ولكن يمكن الاستفادة من أفكاره مع ملاحظة الظروف البيئية والمالية والنظامية..

السياسة المالية في عصرنا الحاضر

أولى كثير من الاقتصاديين المعاصرين من الغربيين وغيرهم في مجال المالية عنايتهم بدارسة النظريات السابقة، وبخاصة نظريات كينز المالية حتى سموا: أصحاب المدرسة الكينزية الحديثة، ولكنهم طوروها، وأضافوا إليها، في المجالات الثلاثة: المضاعف، والطلب الكلي الفعال، والتوازن العام، فمثلاً كانت فكرة المضاعف لدى كينز تخص مضاعفات الانفاق في ظل إطار اقتصادات السكون في حين أنها طورت على يدي هارود، وماكلوب في ظل الاقتصادات الحركية الديناميكية وطبقاها في مجال التجارة الخارجية، وغيرها، ولا تسمح طبيعة هذا المدخل بالخوض في التفاصيل، كما أن النظريات الكينزية القديمة والحديثة قد انتقدت بسبب إخفاقها في بعض الأحيان. عدم الحاجة إلى السياسة المالية:

وقد ظهرت نظريات أخرى تقوم بعضها على أن السياسة النقدية وحدها دون غيرها قادرة على تحقيق التشغيل، وعلاج الأزمات، والوصول دون غيرها إلى الاستقرار الاقتصادي، وأن السياسة المالية غير محتاج إليها في ظل وجود سياسة نقدية ناجعة.

وقد ظهرت هذه النظرية على يدي الاقتصادي الأميركي (فريدمان) من جامعة شيكاغو من خلال كتابه: دراسات في نظرية كمية النقود عام 1956م وبحوثه، ثم انضم إليه مجموعة من الاقتصادية الذين جردوا السياسة المالية من أي قدرة على التأثير على الناتج القومي والخروج من الأزمات، وتحقيق التوازن العام، مما اضطر علماء المالية الرد عليهم، فنشأ جدل عريض وطويل بين الفريقين حول النقود، والأسعار والدورات التجارية والعلاقة بين النقود والبطالة، ولا يسع المجال للخوض فيه، ولكن الذي يظهر رجحانه هو أن كل واحدة من السياسة المالية أو النقدية تقوم بدورها التكاملي، ولا يمكن الاستغناء بإحداهما عن الأخرى.