جريدة الوطن القطرية
21/08/2010يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه «المشكلة الاقتصادية وحلها» والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (علاج أسباب الفقر من خلال البعد العقائدي والفكري) وعرضنا الآثار السلبية للفقر المدقع، وفي هذه الحلقة يستكمل فضيلته الحديث عن (علاج أسباب الفقر):
ومن الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، من حياتك لموتك.
قال النووي: قالوا في شرح هذا الحديث: معناه: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلاّ بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). وفي مجال القدوة يقول عمر رضي الله عنه: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدّقل ـ أي رديء التمرـ ما يملأ بطنه) وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلاّ شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني وقالت جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها: (ما ترك رسول الله عند موته ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة…….. ) وقالت عائشة رضي الله عنها: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير).
وقد وردت أحاديث كثيرة تذكر حالات كثيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوعان حتى إنه في بعض الأحيان يضع حجراً على بطنه حتى يسنده به، وهكذا كان كبار الصحابة، مع انفاقهم في سبيل الله، يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (ولقد رأتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلاّ ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا….) ويقول أبو هريرة: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع…. فقد كان الرعيل الأول يعانون من الفقر والجوع، ولكن غلبوا عليهما بقوة الارادة والتوكل على الله، وحولوهما إلى النعمة، فلم يمنعاهم من الحركة والجهاد، والتعمير والتغيير، فهؤلاء أهل الصفة الذين كانوا بالليل قوامين متهجدين، وبالنهار صائمين وخير مجاهدين، يقول عنهم أبو هريرة: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. ومن الأحاديث الآمرة بالقناعة وبيان فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، وقوله صلى الله عليه وسلم لأهل الصفة الفقراء الجائعين: (لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة).
فهذه الأحاديث وتلك السيرة العطرة والقدوة الحسنة لتدل بوضوح على أنه إذا جاء الفقر والجوع فلا يجوز الاستسلام لهما، بل يجب القناعة والعمل، وأنها تحمل على هذه الحالة، وبذلك يجمع بينها وبين أهمية المال والغنى. فالفقر ليس دليلاً على الإهانة، ولا الغنى دليلاً على التكريم، بل الفقر يتحول مع الصبر إلى نعمة
إن الاسلام لا يجعل الفقر دليلاً على الاهانة، والغنى دليلاً على التكريم، بل المبدأ الاساس في التفاضل هو العمل الصالح والتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ولذلك نعى على هؤلاء الكفرة الذين آمنو بهذه النظرة فقال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، بل إن الاسلام يغرس في نفس الفقير المسلم أنه ان صبر على فقره فله أجر عظيم عند الله تعالى وقد يصل به إلى مقام أعظم وأفضل وأكرم من الغنيّ في يوم القيامة لدى الحشر، وفي الجنة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء…) ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام) ويقول صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فكان عامة الناس من دخلها المساكين وأصحاب الجدّ -أي محبوسون- غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار).
ولا شك أن هناك أحاديث أخرى في فضل الغنى الشاكر المؤدي لحقوق الله تعالى -كما سبق- ولكن مقصدنا هو أن الفقر مع الصبر والقناعة والزهد، يتحول من النقمة إلى النعمة، ومن الشقاء إلى الاحساس بالأجر والثواب.
معالجة الجانب النفسي للفقير
إن الاسلام في علاجه هذا مع تركيزه على التربية والتزكية، يولي عناية قصوى بالجانب النفسي للفقير من جانبين:
1- أن ينظر إلى من هو أفقر منه، أو إلى من هو مصاب في صحته وماله، أو بعبارة أخرى ينظر إلى من هو أكثر بلاء منه وحينئذ يشكر الله على ذلك، وهذا ما أرشده إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم) وفي رواية للبخاري بلفظ: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه).
2- التركيز على قوة الارادة، وعدم الاستسلام للفقر والمسكنة، بل الاعتزاز بما أعطاه الله تعالى له (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) ويقول صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه)، ولذلك يكون الفقير المسلم قوي الارادة والشخصية لا يستسلم للمسكنة وذل السؤال، بل يسعى جاهداً لتوفير الرزق الحلال حسب طاقته، وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، أتكفل له بالجنة ؟ فقلت: أنا فكان لا يسأل أحداً شيئاً).
3- غرس ثقافة الجمع بين التوكل والأخذ بأسباب الغنى، وذلك لأن التوكل هو الاعتماد الكلي على الله تعالى بقلبه ونفسه، مع بذل كل ما في وسعه في الأخذ بالأسباب الظاهرة، وإلاّ فمن اعتمد على على الله دون العمل فهو متواكل وليس متوكلاً، وذلك قدوتنا رسول الله صلى الله عليه كان أكثر الناس اعتماداً على الله، ثم على الأسباب الظاهرة كما تدل على ذلك سيرته العطرة.
ايضا لابد من الأخذ بكل الأسباب الظاهرة للوقاية من الأمراض، وضرورة الأخذ بكل اللقاحات ضد الأمراض، والحماية من العدوى، وهو يتمثل في الواجبات التي فرضها الله تعالى على الدولة، وعلى المجتمع، وعلى الأقارب، والأصول، والفروع، والزوج.