الدوحة ـــ بوابة الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يقول فضيلته في حديثه عن المشكلات الاقتصادية: إن المشكلة الاقتصادية هي ندرة الموارد المتاحة أمام الحاجات والرغبات غير المتناهية في تحقيق منافع من الخدمات والسلع.

وتعتبر المشكلة الاقتصادية حجر الزاوية، بل قطب الرحى في الاقتصاد المعاصر، وهي في جوهرها تعود إلى كيفية اختيار الإنسان، وان حلها كذلك في تنظيم الاختيار، ولذلك يسعى الاقتصاديون لاختيار الأصلح لتوليفة عناصر الانتاج من بين عدة فرضيات: هل يعتمد على العمل المكثف الكثير، أو على رأس المال، أو يمزج بينهما؟ وماذا ننتج؟ وكيف ننتج؟ ولمن ننتج؟ هذه الأسئلة الثلاثة الأساسية، وقد يزاد عليها عدة أسئلة أخرى يكون مقدار حل المشكلة، وهي:

— فهناك عشرات الآلاف من الاحتمالات والأصناف والنوعيات من السلع والخدمات.. فماذا ننتج حتى تشبع الرغبات؟

— كيف يصل المجتمع إلى تنمية قدراته على إنتاج المزيد من السلع في المستقبل.

— وهناك عناصر للإنتاج فكيف يختار أفضل الوسائل الإنتاجية، والاستخدامات؟ أو بعبارة أخرى: كيف ننظم الإنتاج؟ وهل يتم الإنتاج محلياً أو خارجياً؟

— اذا تحقق الانتاج كيف نوزعه على عناصر الإنتاج؟ وكيف نحقق عدالة التوزيع؟ ومن المستهدف لما ننتجه؟

— كيف نحقق أفضل مستوى لاستخدام الموارد الاقتصادية؟

يقول الاستاذ الدكتور شابرا: “إن تخصيص الموارد بكفاءة وتوزيعها على نحو عادل تقتضي من كل نظام اقتصادي الإجابة عن الأسئلة الاقتصادية الثلاثة، وهي: ماذا ننتج؟ وكيف؟ ولمن؟ أي: كم من السلع والخدمات البديلة ننتج؟ ومن ينتجها؟ وبأية مجموعة من الموارد؟ وبأية طريقة ثقافية (تكنولوجية )؟ ومن هم الذين سيتمتعون بالسلع والخدمات التي يتم إنتاجها وإلى أي مدى؟”.

إذن عناصر هذه المشكلة ثلاثة: الحاجة أو الرغبة، وندرة الموارد، وعدم الموائمة فيما بينهما، ونحن هنا نذكرها بإيجاز:

العنصر الأول الحاجات والرغبات غير المتناهية:

المقصود بالحاجة في علم الاقتصاد: الرغبة في الحصول على سلعة، أو خدمة، ولذلك ذكرناهما معاً في العنوان، وهذه الحاجات والرغبات في الاقتصاد الرأسمالي تتميز بأنها:

1. تنافسية، أي أن كل حاجة أو رغبة تتنافس مع حاجة أو رغبة أخرى، فالحاجة إلى الشاي تتنافس مع الحاجة إلى اللبن، والحاجة إلى الغذاء تتنافس مع الحاجة إلى الكساء، وهكذا.

2. تكاملية، أي إن بعضها يكمل بعضها الآخر، فمثلاً اشباع حاجة السكن يستلزم اشباع مستلزمات البناء، أو وجود نقود كافية لشرائه، وان اشباع الحاجة إلى السيارة لا يتم إلاّ من خلال اشباع حاجة تعلم القيادة، والبنزين، وزيت المحرك.. وهكذا، وان كانت هذه الحاجات تختلف درجاتها قوة وضعفاً.

3. متكررة، فالحاجة إلى الشرب والطعام متجددة ومتكررة، وهكذا.

4. متنوعة غير متناهية، أي متنوعة كثيرة وأنها لا تنتهي، بل كلما تطورت الحياة تطورت معها الحاجات والرغبات، وكلما زاد الدخل ازدادت معها الحاجات والرغبات.

5. نسبية، تختلف حسب ظروف المعيشة والزمان والمكان والتقدم الحضاري، وحتى حسب السن والجنس.

6. متجددة، أي: إن معظمها سرعان ما يتجدد ويتولد من جديد مثل الطعام.

7. غير قابلة للاشباع من حيث المبدأ، فلا يصل فيها الإنسان إلى حدّ الاشباع مثل النقود، حيث لا يكتفي الإنسان بما يحوزه منها بالغاً ما بلغ، بل يطمع في المزيد، كما عبر عن ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “لو أن لابن آدم وادياً من ذهب أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب..”.

فالرغبات في الفكر الرأسمالي غير قابلة للإشباع من حيث إنها لا تنتهي، وان الاشباع يمر بمراحل غير متناهية، فما من اشباع إلاّ وفوقه اشباع آخر، فمثلاً الركوب يبدأ بالدابة، ثم السيارة، ثم داخل السيارة، مراتب إلى أن تصل السيارة تصنع من ذهب وجواهر، ثم الطائرة، وهي أيضاً درجات، ثم الطائرة الخاصة، ثم الطائرة المميزة، وهكذا الأمر في المسكن، والطعام.

علاقة الحاجات بالمنافع

فالحاجات في عرف الاقتصاد تشمل كل ما يحتاج إليه الانسان من السلع والمنافع والخدمات سواء كانت ضرورية، أم حاجية؟ حسب عرف علماء الأصول، لذلك تسمى بالمنفعة في الاقتصاد الوضعي، والاقتصاد الاسلامي.

المنفعة في الاقتصاد الوضعي

المنفعة في اللغة ضد الضرر، أو بعبارة أخرى: اسم لما ينتفع به، وفي الاقتصاد الوضعي عرفها الاقتصاديون بعدة تعريفات، فمنهم من قال: إنها مقدار ما يشعر به الإنسان من الرغبة للحصول على شيء في زمن وظرف معينين.

ومنهم من قال: إنها مقدار الاشباع الذي يحصل عليه المستهلك من استهلاك السلع والخدمات.

وقد اختلف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في حقيقة مفهوم المنفعة، ولذلك قال بنتام (1748 — 1832م): “إن الناس اختلفوا كثيراً في فهم المنفعة وتقديرها حق قدرها، ولذلك تشعبت مقدماتهم، وتباعدت نتائجهم”، حتى ترتب عليها اختلافهم في قياس المنفعة، فاتجهت مدرسة المنفعة الفردية التي تنتسب إلى أبيقور 341 — 270 ق.م إلى أن المنفعة تقاس بمقدار اللذة التي يحصل عليها الشخص، بصرف النظر عن أثر الفعل على الغير، وأن الإنسان والحيوان سواء في طلب اللذة والاندفاع إليها، في حين ذهبت مدرسة المنفعة العامة إلى أن اللذة العامة هي أساس السعادة.

 

والمذهب الفردي في الاقتصاد الوضعي اتجه نحو تضخيم دور المنفعة، وجعل المنفعة الشخصية هي الحافز الذي يحرك الناس نحو النشاط الاقتصادي، حيث تبنت المدرسة الكلاسيكية أهمية الفرد فجعلته الأساس لربط قيم نابعة من ذاته، وبالتالي تخليصه من سيطرة مبادئ وأفكار من خارج ذاته سواء كانت من الكنيسة أم من غيرها.

فعلى ضوء هذه النظرية التي سادت الفكر الرأسمالي أن منفعة الفرد هي التي تدفعه للإنتاج حتى يحقق أكبر قدر ممكن من الربح، وليس حباً لإشباع الناس، وكذلك الحال في الاستهلاك والتبادل، وبالتالي فالمنفعة توجد حيث توجد لذة الفرد، وتجنب الألم.

نقد فكرة لا نهائية الرغبات والحاجات

مما لا شك فيه أن هذه الفكرة تعود إلى طبع الإنسان، ونفسه الأمّارة بالسوء، فهل يترك الانسان لأهوائه ورغباته كلها ليفعل ما يشاء، وليأكل القوي الضعيف؟ إذن فما دور الشرائع السماوية والقوانين الانسانية؟

يقول الأستاذ المودودي: “بل إن هؤلاء الأغنياء الرأسماليين.. وسعوا في دائرة حاجاتهم، فمن هذا الباب ان جعلوا الزنا من حاجاتهم اللازمة، فاصطنعوا جيشاً من المومسات، والبغايا والوسطاء والديوثين، كما أنهم اعتبروا الغناء والرقص والمجانة والمتعة واللهو والطرب مما لا غنى لهم عنه، فربوا ودربوا لفيفاً من المغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات..).

ومن هنا يشترطون لاستثمار الأموال، وسفرهم للسياحة أن تتحقق في البلد المعني العناصر السابقة حتى لا يحسوا بالحرمان منها عندما يسيحون، او يبقون لادارة أموالهم.

لذلك فإن العقل السليم يقتضي والفطرة السلمية تؤكد، والضرورة تفرض وجود قيود على هذه الرغبات وهذه الأهواء، ولذلك حددها الاسلام بأن تكون في الطيبات النافعات وليست في الخبائث والأضرار والمفاسد، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ”، فالله تعالى غني عن عباده، ولكنه يرشدهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، فجعل معيار الحلال في الطيبات، ومعيار الحرام في الأضرار والمفاسد والخبائث فقال تعالى: (.. وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..”.