الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يتوقف فضيلته اليوم أمام : إجابات الفكر الاسلامي عن الأسئلة المثارة حول المشكلة الاقتصادية، فيقول :

إن الفكر الاسلامي ـ في رأيي ـ يجيب عن الأسئلة المثارة لحل المشكلة الاقتصادية : ( ماذا ننتج ؟ كيف ننتج ؟ لمن ننتج ؟ كيف ننمي الانتاج ؟ ) مع الاجابة عن أسئلة أخرى خاصة ببقية مراحل النشاط الاقتصادي ، وهي : كيف نملك ؟ وماذا نملك ؟ وكيف نستهلك ؟ وكيف نوزع الناتج على عناصر الانتاج ؟ وكيف نقوم بإعادة التوزيع ؟

فالفكر الاسلامي ينظر إلى هذه الأسئلة نظرة شاملة واحدة ـ وباعتبارها رزمة واحدة ـ دون الفصل بين الانتاج ـ الذي ركز عليه الفكر الرأسمالي ـ وبين بقية مراحل النشاط الاقتصادي ، كما أنه يجيب عنها واحدا ًواحداً .

ونحن هنا نؤجل الاجابة عن بقية مراحل النشاط الاقتصادي إلى الفصل اللاحق ، ونركز على الاجابة على الأسئلة الأساسية عن الانتاج من خلال ضبط الأمور الآتية:

الأمر الأول : ضبط الحرية والاختيار في مجال الانتاج من حيث ورود نص شرعي أو عدم وروده فيه :

1. ما ورد فيه نص شرعي فإما أن يكون دالاً على :

‌أ) ايجابه ، وفرضه ، وحينئئذ يلزم المسلم بتطبيقه ، وتبقى له الحرية والاختيار في تقديم ما هو أكثر فرضاً ووجوباً على ما عداه عند التزاحم .

‌ب) أو تحريمه ، وحينئذ يجب عليه أن لا ينتجه إلاّ في حالات الضرورات التي تبيح المحظورات ، مع القطع بأن المحرمات ليست على مستوى واحد في شريعتنا ، فهناك أكبر الكبائر ، ثم الكبائر السبع أو التسع ، ثم الكبائر ، ثم الصغائر فينظر إليها عند التزاحم .

‌ج) أو إباحته ، وندبه ، وكراهته ، حيث تكون للمسلم الحرية في اختيار المباح في الإنتاج ، والأفضلية لاختيار المندوب ، ولعدم اختيار المكروه ، مع ملاحظة أنه قد ترد ظروف وأحوال تجعل المباح واجباً ، أو محرماً ولا سيما إذا صدر به قرار من ولي الأمر .

2. وما لم يرد فيه نص شرعي ، فهذا يسمى بمنطقة العفو ، أخذا من حديث سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال ، وما حرّمه فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ) ، وهذ المنطقة واسعة جداً في مجال الاقتصاد والسياسة ، لأن النصوص فيهما قليلة ، وبالتالي تبقى في إطار المباح شرعاً ، لأن الأصل في الأشياء الاباحة ما لم يرد دليل خاص به .

وفي دائرة ما يجوز انتاجه مطلقاً ـ سواء كان النوع السابق ، أم من منطقة العوف ـ يرد فقه الموازنات والأولويات ، وتتدخل الشريعة فتفرض أولاً تحقيق الضروريات من الانتاج ثم الحاجيات ، ثم التحسينيات .

فعلى ضوء ما سبق أن الحرية في إشباع الرغبات موجودة بل واسعة أيضاً ولكنها مقيدة بعدم تجاوز حدود الله ومنضبطة بضوابط الشرع ، وأن مدى الاختيار أيضاً واسع ولكنه منضبط بأخلاقيات المسلم ، وموجود لتحقيق الأحسن في كل شيء .

الأمر الثاني : ضبط جهاز السوق وجهاز الثمن ، وقانون العرض والطلب ، فليس لدى الفقه الاسلامي اعتراض على هذه الأمور ، بل يقرها ولكن في ظل الضوابط الشرعية ، وفقه الأولويات والموازنات ، وتحقيق السعر العادل .

ومما ضبط به قانون العرض والطلب في الفقه الاسلامي هو منع الاحتكار ، ولا سيما بالمعنى الفقهي الذي يشمل أي سلعة أو خدمة ضرورة أو حاجية يضيق به الناس ، ليزداد سعرها ، وهذا رأي أبي يوسف ، والمالكية ، والظاهرية .

ويدخل في نظري في الاحتكار المحرم التحكم في الانتاج ، والهيمنة على المواد الأولية بما يترتب عليه اقفال المنافسة الشريفة .

ويدل على حرمة الاحتكار مطلقاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحتكر إلاّ خاطئ ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون ) وقد طبقه عمر رضي الله عنه بهذا المفهوم الشامل فقال : ( لا حكر في سوقنا ) .

وأما ما ورد في بعض الأحاديث من تخصيص الاحتكار بالطعام فهو لا يمكن اعتباره ناسخاً إذ لا تعارض ، وإنما لأهمية الطعام وخطورة الاحتكار فيه ، والشريعة الاسلامية تفرض على التاجر المسلم أن يجلب من السلع والخدمات التي يحتاج إليها الناس بقدر حاجتهم ، ويعرضها عليهم دون حبس أو احتكار بقصد الاضرار بهم أو التضييق عليهم .

 

الأمر الثالث : إن قانون الربح على أساس المشاركات بجميع أنواعها وتحمل رأس المال المخاطر المعقولة ـ ما عدا حالات التعدي والتقصير ، أو مخالفة الشروط ـ في مقابل تحمل العامل الجهد المبذول يساهم بشكل فعال في تنشيط الانتاج وتنميته ، وتطويره واختيار ما يحقق رغبات المستهلكين بين السلع والخدمات المشروعة ، إضافة إلى دور الزكاة والنفقات الواجبة والكفارات ، ونحوها في عملية التوزيع العادل وتحفيف حدة الفقر .

الأمر الرابع : إن الدافع للانتاج وتنميته ، وتطويره وتحسينه ليس الربح فقط ، بل العقيدة الاسلامية ، والمبادئ الاسلامية أيضاً القاضية بأن الانسان مستخلف في الأرض ، وأن رسالته فيها هو تحقيق العمران والتنمية وتحقيق السعادة والحسنة فيها ـ بالاضافة إلى حسنة الآخرة ـ فقال تعالى : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي طلب منكم طلباً وجوبياً تحقيق العمران فيها .

إذن فالمسلم يكون آثماً إذا ترك التعمير وهو قادر عليه ، ويكون مثاباً ومأجوراً إذا عمر ، وأن أجر العمران يبقى مستمراً ما دام العمران باقياً ، فالله تعالى يصف المسلم الذي يكتب له الفلاح بأنه يعمل بجد ونشاط ، ويفعل بكل ما أوتي من قوة لأجل سعادة الآخرين ، فهو يسعى ليكون له مال حتى يعطي منه للفقراء والمساكين فقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) أي أنهم يفعلون ويشتغلون ويحصلون المال ؛ لأجل الزكاة ودفعها.

الأمر الخامس : دافع الربح والمنفعة الشخصية والغنى والرفاهية أيضاً موجود ، ومع العلم أن المسلم له هذه الرسالة النبيلة ، لكن الاسلام لا يمنعه من وجود دافع الربح ، والمنفعة الشخصية ، وتحقيق الغنى ، والرفاهية ، بل إن كل ذلك مطلوب مع حسنة الآخرة ، لذلك جعل الرقآن شعاره : (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) وقال تعالى : (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .

إذن فدافع تحقيق الربح ـ الثراء والرفاهية ـ كما هو موجود لدى غير المسلم ، موجود لدى المسلم أيضاً مع فارق الانضباط بأحكام الشريعة ، ومقاصدها في تحقيق ذلك .

الأمر السادس :إن مبدأ ( لا ضرر ولا ضرار ) القاضي بمنع إحداث أي ضرر بالانسان أو الحيوان ، أو البيئة ، والالتزام بالفطرة السليمة ، وعدم تغيير خلق الله تعالى يؤدي إلى الاستخدام الأمثل للطيبات ، ومنع جميع الاستخدامات العبثية التي نراها ونسمعها اليوم ، مما ترتب عليها فساد عريض في الأرض ، وامراض خطيرة في الانسان والحيوان والنبات لم تكن معروفة في السابق ، فجنون البقر في بريطانيا وحدها خلال السنوات العشر الأخيرة كلفها أكثر من خمسة عشر مليار جنيه استرليني .