الدوحة- الشرق

كتاب “إستراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية النقدية والمالية في ظل الربيع العربي ، يخص به فضيلة الشيخ د. علي محي الدين القره داغي الشرق في رمضان من هذا العام ليكون عونا لكل شعوب الأمة العربية والإسلامية في مسارها ونهضتها وإنقاذ البشرية مما يعتريها من ظلم وفقر وحرمان، إذ يقدم الكتاب عبر الفصول المختارة التي ننشرها تباعا استراتيجية التنمية الشاملة والسياسات الاقتصادية (النقدية والمالية) في ظل الربيع العربي وهي دراسة فقهية اقتصادية، ومحاولة لبديل إسلامي، مع حلول طارئة.. يكمل فضيلته الحديث عن علاج أسباب الفقر:

علاج أسباب الفقر من خلال هذا البعد العقدي والفكري (الأيديولوجي): إذا نظرنا إلى جميع أسباب الفقر التي ذكرناها نجد أن الاسلام قضى عليها من الجانب التنظيري والتأصيلي ثم من الجانب التطبيقي خلال فترات من التأريخ الاسلامي وذلك على ضوء ما يأتي:

1) وجوب العمل على القادر، حيث أولى الاسلام عناية قصوى بالعمل، وأمر به كما أمر بالصلاة بنفس الصيغة الآمرة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ثم قال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) حيث أمرنا بالانتشار في الأرض بعد الصلاة مباشرة لطلب الرزق كما سبق.

2) حرمة السؤال من غير ضرورة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا قبيصة: ان المسألة لا تحل إلاّ لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة…. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش… ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له مسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو قال: سداداً من عيش، فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة: سحت، يأكلها صاحبها سحتاً) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه ).

3) للاسلام منهج متكامل في مسألة المرض، حيث أمر بالوقاية، والحماية، وأمر بالتداوي، والاستفادة من كل دواء فيه شفاء….

4) بالنسبة لثقافة التواكل والكسل وحقارة بعض المهن فإن الإسلام حارب هذه الثقافة تماماً، وقرن العمل والكسب الحلال بالجهاد في الفضل والأجر والثواب.

5) وبالنسبة للأمية والجهل والتخلف فقد حاربها الاسلام كما سبق.

6) وبالنسبة للاحتلال والاستعمار فإن الإسلام يجعل الجهاد فرض عين على أهل المنطقة، ثم على الأمة للتصدي للاحتلال والاستعمار، وإخراجهما عن أرض الإسلام.

7) وبالنسبة للحرب والداخلية والخارجية، فإن الاسلام حرم جميع الحروب إلاّ الحرب للدفاع عن الوطن الاسلامي والدين، ولاعلاء الحق والدفاع عن المظلومين، وحتى في وقت الحروب فإن الاسلام يفرض مواثيق خاصة تتضمن عدم القيام بقطع الأشجار والافساد في الأرض، وعدم إهلاك الحرث والنسل بدون وجه حق….

ومنع الاسلام الاضطرابات والحروب الداخلية وأوجب على المسلمين أن تكون وسائل التعبير عن الآراء داخل المجتمع المسلم محصورة في الوسائل السلمية فقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة أن لا يرفع السلاح في وجه الأمراء إلاّ أن يروا منهم كفراً بواحاً.

فهذه الأحاديث وغيرها لا تعني الاستسلام للحكام الظلمة المسلمين، وإنما تريد الحفاظ على أمن الدولة والمجتمع بأقصى ما يمكن مع استعمال جميع وسائل التعبير عن الرفض بالكلام والنصح لهم، والمظاهرات، والاعتصام والعصيان المدني الشامل، ونحوها من الوسائل السلمية حيث وردت آيات وأحاديث صحيحة أخرى تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى وجوب النصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وكلمة الحق أمام السلطان الجائر، ومنع الظالم من ظلمه.

8) وبالنسبة للظلم مطلقاً، والظلم المالي فلا نجد ديناً ولا نظاماً أولى العناية بالعدل، ومنع الظلم مثل الاسلام حتى وصلت الآيات التي تتحدث عن العدل، والظلم إلى حوالي ألف آية.

9) وبالنسبة للفساد الاداري والمالي الاقتصادي والسياسي يأتي الحديث عن موقف الاسلام الواضح منه.

10) وأما بالنسبة لمسؤولية الحكومات، فالآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة والآثار المروية عن كبار الصحابة تتحدث عن مسوؤليتها حتى عن الحيوانات.

11) وكذلك الاعتماد على فقه الأولويات يدل عليه عدد من النصوص الشرعية.

البعد الثاني الحلّ الذاتي الداخلي:

حيث يسعى الانسان لحل المشكلة الذاتية داخل كيان الفقير نفسه من خلال ما يأتي:

1.يركز الاسلام في هذا المجال على غرس العقيدة الصحيحة في داخله، وبخاصة الايمان باليوم الآخر وما أعده الله تعالى للانسان في الجنة، وان الدنيا ما هي محطة العبور، والايمان بالقضاء والقدر، والايمان بأن في الفقر والغنى حكماً قد يظهر لنا بعضها، ويخفى علينا الكثير، كما أظهر القرآن الكريم ذلك من خلال قصة سيدنا موسى عليه السلام مع خضر، حيث تبين أن كل ما فعلته يد القدر كان خيراً ومصلحة، وقد أكد القرآن الكريم من خلال مجموعة من الآيات على أن الخير فيما اختاره الله تعالى فقال: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).

2. وبهذه العقيدة يتحقق للفقير داخلياً الطمأنينة والرضا، والصبر والقناعة، وأن نعم الله تعالى كثيرة عليه، فقد يكون قد حرم من نعمة الغنى لكنه عوض بنعم أخرى لا تعد ولا وتحصى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وبعبارة موجزة التركيز على التربية العقدية والروحية، والتزكية الأخلاقية الداخلية للفقير، التي تجعله مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في صبره على الجوع والفقر، وبصحبه الكرام، بخاصة أهل الصفة، وقناعتهم، وصبرهم، وعفتهم وزهدهم حتى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).

3.غرس قيم الصبر والزهد والقناعة والرضا:

يركز الاسلام على العناية القصوى بالآخرة، باعتبارها المرجع والمآل، والدار الخالدة، وأن الدار الدنيا هي متاع الغرور، وعلى غرس القناعة والرضا والصبر، وعلى ذلك تدل مئات الايات والأحاديث، منها قوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا).

ومن الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب عابر سبيل) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، من حياتك لموتك ).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ).

وفي مجال القدوة يقول عمر رضي الله عنه: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدّقل أي ردئ التمر ما يملأ بطنه) وقالت عائشة رضي الله عنها: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلاّ شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ، فكلته ففني).

وقد وردت أحاديث كثيرة تذكر حالات كثيرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوعان حتى إنه في بعض الأحيان يضع حجراً على بطنه حتى يسنده به، وهكذا كان كبار الصحابة، مع انفاقهم في سبيل الله، يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (ولقد رأتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلاّ ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا….) ويقول أبو هريرة: (فوالله الذي لا إله إلاّ هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع… ).

فهذه الأحاديث وتلك السيرة العطرة والقدوة الحسنة لتدل بوضوح على أنه إذا جاء الفقر والجوع فلا يجوز الاستسلام لهما، بل يجب القناعة والعمل، وأنها تحمل على هذه الحالة، وبذلك يجمع بينها وبين أهمية المال والغنى.