القسم الأول: أسئلة وملاحظات وشبهات مع محاولة الإجابة عنها:


    يثور حول عقد الإجارة المنتهي بالتمليك من حيث الجملة عدة أسئلة وملاحظات ينبغي الإجابة عنها، وتوضيحها حتى تكون الصورة واضحة من الناحية الفقهية.


 


ومن هذه الملاحظات ما يأتي:


 


أولاً: أليس هذا العقد جديداً أم أنه تطوير لعقد الإجارة؟


ثانياً: أليس هذا العقد داخلاً في العناية بالألفاظ والعبارات؟ وبعبارة أخرى: ما علاقته بقاعدة: العبرة في العقود بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني؟ وهل الغالب في الفقه الإسلامي العناية بالدلالات وما يفهم من العبارة أو بظاهر الألفاظ؟


ثالثاً: وما حكم الشرع في الجمع بين صفقتين في صفقة واحدة، ألم يرد فيه نهي؟


رابعاً: إن هذا العقد يتضمن الوعد فهل هو ملزم أم لا؟


خامساً: إن هذا العقد في معظم حالاته يتضمن التأمين على الأشياء والمعدات المستأجرة؟


سادساً: إن هذا العقد يتضمن شروطاً قد تفسد العقد منها اشتراط البيع في الأخير بعد انتهاء عقد الإجارة؟ أي اشتراط البيع في الإجارة في بعض صوره.


سابعاًَ: إن في بعض صوره إجارة قبل التملك وإجارة قبل القبض؟


ثامناًً: ما الحكم في أن الثمن الذي يحدد في بعض صوره يكون رمزياً، أو هبة؟


تاسعاً: إشكالية حول ما يسمى بالأجرة العادلة إذ الأجرة فيها أكبر من حجمها الحقيقي.


عاشراً: أليس هذا العقد عبارة عن الحيلة، وليس الحقيقة، فالمستأجر في حقيقته وقصده وإرادته الحصول على ملكية العين من البداية، والمؤجر (الممول) لا يريد من حيث الحقيقة والأساس شراء العقار والمصنع أو المعدة، وإنما يريد الربح من خلال العملية؟ وبالتالي فهي تخالف مقاصد الشريعة.


 


وكل هذه الأسئلة لها علاقة بهذا العقد، فإذا أجيب عنها بأجوبة مقنعة فإن التأصيل الفقهي له يكون ميسوراً.


 


1- الإجابة عن السؤال الأول:


    إن الإيجار المنتهي بالتمليك ليس عقداً جديداً في حقيقته، وإنما هو نوع من التطوير الذي اهتدت إليه المؤسسات المالية للإستفادة منه كوسيلة مربحة أقل مخاطر لتمويل المشروعات والصناعات والمعدات يستفيد منها المتعاملون معها لشراء تلك المعدات في المستقبل عبر عقد الإجارة- كما سبق.


ثم إنه حتى لو كان عقداً جديداً فلا مانع منه شرعاً ما دام لا يصطدم مع نص شرعي من الكتاب والسنة والاجماع، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة، وليس هناك مانع شرعي من إحداث أي عقد جديد بشرط واحد وهو أن لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة أو الاجماع([1]).


 


2- للإجابة عن السؤال الثاني، نقول: إن المقصود بالقاعدة هو أنه ينظر في العقود إلى المعنى العام المفهوم من الجملة، ولا يقتصر النظر على كلمة واحدة منها ، و إلى المقصد العام منها، فلو قال شخص وهبتك هذه الدار بألف دينار مثلاً فهل ينظر إلى لفظ الهبة التي يتناقض معناها مع تقييدها بألف دينار، حيث إن معناها العطاء دون مقابل، وحينئذ يلغى تماماً العقد، أو يلغى القيد فتكون هبة، أو ينظر إلى المعنى المفهوم من الجملة وهو الدفع في مقابل شيء فيكون بيعاً لأن البيع هو مبادلة المال بالمال، وحينئذٍ لا قيمة لمعنى لفظ مجرد، وإنما العبرة بالمعنى العام المفهوم من  الجملة بكاملها، وبالقصد العام منها، وهو البيع([2]).


وأما القصد من الشيء فهو معتبر عند الجميع لحديث: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”([3]), وقد انبثقت منه القاعدة المعروفة: “الأمور بمقاصدها”([4]).


قال ابن القيم: “ومن تدبّر مصادر الشرع تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه، ومن قواعد الشرع التي لا يجوز هدمها أو هدرها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، ودلائل هذه تفوق الحصر…”(5).


لكن هذه القاعدة بهذا المعنى لا تنطبق على موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك، إذ إن عقدها لا يذكر فيها ألفاظ البيع، وإنما يذكر منفصلاً ومستقلاً عن العقد الوعد بالبيع، أو حتى العقد كملحق، ولكن الذي تنطبق على الإجارة المنتهية بالتمليك هو مدى رعاية القصود والنيات أم رعاية الألفاظ والعبارات، فهذا العقد وإن كان قد صيغ بصياغة الإجارة وشروطه لكن مقصود العاقدين هو التملك والتمليك، فالمؤجر لا يريد أن يحتفظ بالعين المؤجرة إلا لفترة زمنية محددة يسترجع فيه ثمنها مع الأرباح، والمستأجر لا يريد الإجارة لذاتها وإنما يريد تملكها، ولكن بما أنه لا يتملك السيولة الكافية، أو لأي سبب آخر يختار الإجارة المنتهية بالتمليك، وحتى هذه النية ليست مما يمكن الاستدلال عليها بل تدل عليها الظروف المحيطة بالعقد، ونوعية أقساط الإجارة- حيث تكون أكثر من الأجرة العادية – وبيع العين المستأجرة الذي يتم بثمن رمزي في الغالب لا يمثل قيمتها السوقية.


 


فقد ثار خلاف بين  الفقهاء حول تغليب النيات والقصود على الألفاظ والعبارات ودلالاتها على رأيين:


الرأي الأول: هو الاعتناء بالألفاظ والعبارات، ولذلك صححوا – بيع العينة ونحوه، وهذا رأي الشافعية وأبي يوسف من الحنفية، في حين ذهب الجمهور إلى عدم صحة بيع العينة([6])، والجميع متفقون على حرمتها إذ أراد عاقدها التحايل على الربا، وإنما الخلاف فيما عدا ذلك وفي الصحة والبطلان.


 


وقد استدل المجيزون بالكتاب والسنة والآثار والقياس:


أما الكتاب فهو الآيات الواردة بخصوص وجوب الوفاء بالعقود، وهي ليست إلا الإيجاب والقبول مع توافر بقية الأركان والشروط، وليس في هذه الآيات ما يشير إلى وجوب الكشف عن نية العاقد، وغرضه مادام الظاهر مشروعاً.


وأما السنة فمنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما بسنديهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله تجاوز عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل، أن تتكلّم”([7]), والحديث واضح في دلالته على أن المعتبر هو القول، أو الفعل، قال الشافعي: “إن الله تعالى أمره- أي النبي محمداً صلى الله عليه وسلم – أن يحكم على الظاهر..”([8]).


وأما الآثار فهي  مروية عن زيد بن أرقم حيث يرى جواز ذلك([9]).


أما القياس فهو يقتضي صحة هذا العقد لأنه تتوافر فيه الشروط والأركان، وأيضاً لو فتح باب الباطن لأدى إلى الفوضى والاضطراب.


واستدل المانعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعين واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم”([10]). كما استدلّوا بأحاديث أخرى تدل بوضوح على بطلان بيع العينة ونحوها مما فيه نوع من التحايل، وهي بمجموعها تخصص الآيات والأحاديث التي استدل بها الشافعية ومن معهم، ولذك فالراجح هو قول الجمهور([11]) في أن القصد معتبر في المعاملات أيضاً ولا سيما إذا ظهر ذلك من خلال القرائن والظروف المحيطة به، وكلام الشافعي- رحمه الله – محمول على النية الكامنة في النفس التي لا يدل عليها دليل، أما إذا كانت الظروف والقرائن كلها تدل بشكل واضح على أن البائع لم يرد البيع، وإنما جعله وسيطاً للحصول على الزيادة، ووسيلة إلى الربا فهو بلا شك ينبغي القول ببطلانه وحرمته.


 


لكن علاقة هذه القاعدة بالإجارة المنتهية بالتمليك يمكن أن تكون محل نظر من حيث إن النية في بيع العينة نية سيئة، يراد من خلالها الوصول إلى الربا، أما القصد وراء الإجارة المنتهية بالتمليك فهو البيع وهو مشروع كالإجارة، – إذن – لا يبقى حرج في هذا المجال، وذلك قد يقال إن في ذلك حيلة لأن العلماء قالوا في باب الحيل إنما تكون محرمة إذا كانت وسيلة إلى محرم، أو إلى التخلص عن مقتضيات نص شرعي، أما إذا كانت الغاية مشروعة، والوسيلة مشروعة فإن ذلك جائز وقد ذكر ابن القيم أنواعاً كثيرة من الحيل المشروعة فقال:


“القسم الثالث”: أن يحتال على التوصل إلى الحق، أو على دفع الظلم بطريقة مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقاً إلى هذا المقصود الصحيح.. ونذكر لذلك أمثلة منها: إذا استأجر منه داراً مدة سنتين بأجرة معلومة فخاف أن يغدر به المكري في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار، أو أنه كان مؤجراً قبل إيجاره.. فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة أن يضمنه المستأجر دَرَك العين المؤجرة له، أو لغيره، فإذا استحقت، أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منهن أو يأخذ إقرار من يخاف منه بأنه لا حق في العين، وأن كل دعوى يدعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمائة دينار مثلاًن ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد…


 


ومنها أنه لا يجوز استئجار الشمع ليشعله لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أواقي معلومة، ثم يؤجره إياها، فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها، قال ابن القيم: “وأحسن هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم، قلّ المأخوذ منها أو كثر، وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا، وهو الصواب…، بل عمل الناس في أكثر بيوعاتهم عليه، ولا يضر كمية المعقود عليه عند البيع، لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي إلى القمار والغرر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلاً أخذ، والبائع راض، وإن أراد كثيراً أخذ والبائع راض، والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمح من ذلك وأحكم”.


ثم صرح ابن القيم بأنه لا محذور في  الجمع بين الإجارة والبيع، فقال: فإن قيل لكن في العقد على هذا الوجه محذوران:


أحدهما: تضمنه للجمع بين البيع والإجارة، والثاني أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه، أو بعضه بالإشعال.


 


قيل: لا محذور في  الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده كما لو باعه سلعة وأجره داره شهراً بمائة درهم، وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز، لأنه لم يتعوض عنه المؤجر، وعقد الإجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع، أما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجره وانتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها، فدعونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرم هذا؟ وأين هو من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة أو القياس الصحيح”([12]).


 


ولكن تبقى علاقتها بهذه القاعدة من حيث إنه إذا اعتمدنا على القصد فيعتبر العقد من حيث القصد والمآل عقد بيع وحينئذٍ تطبق عليه أحكام البيع، كما هو الحال في القانون، وإذا اعتمدنا على الألفاظ فيعتبر العقد عقد إجارة فتطبق عليه أحكام الإجارة، غير أنه مما يجدر التنبيه عليه أن الفقه الإسلامي يشترط بجانب القصد الصيغة الدالة على العقد، فإذا لم توجد فلا يمكن أن يتحقق العقد لعدم توافر أركانه الأساسية، ومن هنا فلا يعتبر ما ذكرناه عقد بيع تطبق عليه أحكامه. هذا والله أعلم.


3- والجواب عن الإجارة المنتهية بالتمليك تدخل في باب صفقتين في صفقة واحدة وهي منهي عنها حيث ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نهى عن صفقتين في صفقة واحدة”([13]).


والجواب عن ذلك من وجوه:


الوجه الأول: أن هذا إنما ينطبق في صورة واحدة يُذكر في الإجارة المنتهية البيعُ والإجارةُ معاً، في حين أن معظم صورها لا يُذكر في نفس العقد إلا الإجارةُ فقط.


 


الوجه الثاني: أن هذا الحديث مرفوعاً بهذا اللفظ ضعيف([14])، وإنما الثابت هو الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه كما ثبت أيضاً حديث “لا يحل بيع وسلف”([15])، وحديث “النهي عن بيعتين في بيعة”([16]), وعلى ضوء ذلك لا يدخل عقد الإجارة في الموضوع لأن النهي عن البيع، والسلف، أو عن البيعتين، فلا يشمل الإجارة والبيع.


 


الوجه الثالث: أن التفسير الراجح لهذا الحديث هو ماذكره راوي الحديث نفسه وهو ابن مسعود رضي الله عنه حيث ثبت أنه قال: “لاتصلح الصفقتان في الصفقة: أن يقول هو بالنسئية بكذا وكذا، وبالنقد بكذا وكذا”([17]), وهذا التفسير أيضاً مروي عن سفيان الثوري، وسماك، وعبدالوهاب بن عطاء وأبي عبيد وابن سيرين، والنسائي، وابن حبان، ومالك، وبعض أهل العلم حسب تعبير الترمذي([18]).


 


وقد حققنا في بحث لنا أن المراد بهذه الأحاديث هو ذلك التفسير السابق إضافة إلى النهي عن الجمع بين السلف والبيع في عقد واحد وذلك لأنه يؤدي إلى السريان، وإلى استغلال عقد القرض، أو السلم للوصول إلى زيادة لم تكن تتحقق لولاه، فحرم الإسلام ذلك قطعاً لكل وسيلة تحايل تؤدي إلى المحرمات من ربا وغيره([19]). قال ابن القيم: “هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية”، ثم قال: “وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رداً لمثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك…”([20])، ويلحق في الحرمة بما سبق كل عقد من عقود المعاوضات المالية كالإجارة إذا اقترن بالسلف، بأن يجمعهما عقد واحد([21]).


 


والخلاصة أن الجمع بين الإجارة والبيع جائز، لا يدخل في هذه الأحاديث الواردة في النهي عن الصفقتين في صفقة واحدة، لما ذكرناه، ومن هنا فلو تضمنهما العقد لما كان عقداً منهياً عنه ولا عقداً فاسداً أو رباً باطلاً، وقد نصَّ جماعة من الفقهاء منهم المالكية على جواز الجمع بين الإجارة والبيع في صفقة واحدة(22)، ومنهم الشافعية([23]), والحنابلة([24]).


 


4- الإجابة عن مدى إلزامية الوعد والمواعدة:


فالوعد (أو العِدَّة) هو الإخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل([25]), فهو تصرف شرعي قولي يتم بإرادة منفردة.


وأما المواعدة – فهي المشاركة في الوعد من شخصين، وذلك بأن يعلنا عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما، وقد ذكر الفقهاء المواعدة في عدة أماكن منها المواعدة على بيع النكاح في العِدَّة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على بيع الإنسان ما ليس عنده وغير ذلك([26]).


والموعدة تختلف عن العقد الذي هو إنشاء للإلتزام في الحال، في حين أن المواعدة عبارة عن وعد بين طرفين بإنشاء العقد في المستقبل.


 


وقد ثار الخلاف بين الفقهاء في إلزامية الوعد على عدة آراء:


1- منها رأي الجمهور القاضي بعدم إلزامية الوعد.


2- ومنها رأي ابن شبرمة وبعض المالكية الذين يقولون بأن الوعد كله لازم، وهو رأي القاضي سعيد بن أشوع الكوفي الهمذاني، قال البخاري: “وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب” وأن ابن راهوية يقول به([27]).


3- ومنها القول المشهور والراجح في مذهب مالك الذي عزاه القرافي إلى مالك، وابن القاسم، وسحنون حيث يقولون بأن الوعد ملزم قضاء وديانة إذا كان مرتبطاً بسبب، ودخل الموعود في السبب، قال سحنون: “الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أخلفته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق..”ثم قال القرافي: “بذلك قضى عمر بن عبدالعزيز”([28]).


 


بل إن هذا الرأي التجأ إليه متأخرو الحنفية على الرغم من أن قدماءهم لا يقولون بذلك فقد جعل متأخروهم عدة مواعيد لازمة، جاء في حاشية ابن عابدين في مطلب الشرط الفاسد: “قلت وفي جامع الفصولين: لو ذكر البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العقد جاز  البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازماً لحاجة الناس..” ثم نقل عن  الفتاوى الخيرية للرملي أن علماء الحنفية صرحوا بأن العاقدَين لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد([29]). وأيد ذلك العلامة خالد الأتاسي في شرح المجلة وعلل ذلك بحاجة الناس([30]).


 


ونحن هنا لا نريد الخوض في تفاصيل ذلك، لكن الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بإلزامية الوعد ديانة مطلقاً إلا لعذر مشروع، وبإلزامية الوعد قضاءً أيضاً إذا ارتبط بسبب أو ترتب عليه ضرر، فهذا هو المناسب مع مقاصد الشريعة، وأدلتها الكثيرة في الكتاب والسنة القاضية بوجوب الوفاء بالعهود والوعد والعقود، وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق، ولذلك استشكل الحافظ ابن حجر قول جماعة من الفقهاء حينما قالوا: “يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاء، وقول بعضهم: إنه يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاءً”، وقول بعضهم: “إنه يجب الوفاء تحقيقاً للصدق وعدم الإخلاف” فقال الحافظ: “وينظر: هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف، ولا يجب الوفاء، أي يأثم الإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك”([31]) أي في القضاء.


 


وقد صدرت عدة فتاوى جماعية بهذا الصدد: منها فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي عام 1399هـ مفادها أن وعد عميل المصرف بشراء البضاعة بعد شرائها، ووعد المصرف بإتمام هذا البيع ملزم للطرفين.


ومنها فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي عام 1403هـ مفادها “وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر، أو المصرف، أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً، وكل مصرف مخيَّر في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.


 


وأخيراً صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة هذا نصه:


قرار رقم 40- 41  (2/5 و3/5)


بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء


إن مجلس مجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادي الأولى 1409هـ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.


بعد اطّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.


قرر:


أولاً: أن بيع المرابحةللآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.


 


ثانياً: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض على الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.


LinkedInPin