بقلم: ا. د. علي محيي الدين القره داغي

جريدة الوطن – الدوحة

جواز اشتراط الغرامة

ويرى واحد من الفقهاء المشاركين جواز اشتراط الغرامة على أن يستحقها الدائن ويتم تحديد مقدارها عن طريق القضاء أو التحكيم، ويرى واحد آخر من الفقهاء منع الاشتراط ولكن يستحق الدائن التعويض عن الضرر ويتم تحديد مقداره عن طريق التحكيم بالاستئناس بمستوى الربح في المؤسسات الإسلامية.

 وقد اختلف المعاصرون في جواز هذا الاشتراط في العقد، فذهب جماعة منهم (ومعهم هيئات الرقابة الشرعية) إلى منع ذلك بناءً على أن هذا اشتراط ربوي بدفع زيادة بسبب التأخير، وهذا الاشتراط في العقد باطل يجعل العقد باطلاً أو فاسداً، وحتى لو لم يجعله باطلاً أو فاسداً فإن هذا الاشتراط الربوي محرم ـ كما سبق ـ وهذا ما عليه جمهور العلماء السابقين، وهو مقتضى قول الحنفية والشافعية في قول والمشهور الصحيح عند المالكية، كما انه من الناحية العملية فإن المدين في الأخير يدفع زيادة مشروطة في العقد بسبب التأخير ولا يؤثر في ذلك كونها تصرف في وجوه الخير أم لا، فالمهم قد حمّل المدين بأعباء إضافية مع أن الإسلام يدعو إلى تخفيف كاهله.

 وذهب آخرون إلى جواز ذلك بناءً على الأدلة التي ذكرناها للمجيزين في غرامة التأخير، إضافة إلى وجود أقوال لبعض المذاهب المعتبرة تجيز مذل ذلك، حيث نقل الحطاب جواز ذلك عن بعض علماء المالكية (منهم أبوعبدالله بن نافع ت 186هـ ومحمد بين إبراهيم بن دينار ت 182هـ ) فقال: ( إذا التزم أنه إذا لم يوفه حقه في قوت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان أو صدقة للمساكين فهذا محل الخلاف المعقود له هذا الباب،فالمشهور أنه لا يقضي به … وقال ابن دينار يقضى به) ثم نقل عن ابن نافع قريباً من ذلك.

 وقد اسند بعض المعاصرين هذا القول إلى الشافعية والحنابلة في قول حيث قال: وما ذهب إليه ابن نافع وابن دينار هو مقتضى قول الحنابلة والشافعية.

ويلاحظ عليه أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأنه لا يمكن قياس موضوعنا هذا على موضوع اشتراط العتق في البيع لعدة أسباب، أن الشارع يتسوف كثيراً إلى العتق ولذلك يتساهل فيه، كما أنه لا يمكن قياس اشتراط الزيادة في الديون والقروض على الاشتراط في البيع، فمبنى البيع على التوسع في الشروط في حين أن مبنى الديون والسلف على التضييق في الشروط خوفاً من الربا.

التعويض عن الضرر الذي أصاب البنك الدائن:

إذا كان هناك اتفاق على أن يكون تعويض الدائن عن تأخر دينه

اشتراط التعويض دون تحديد مبلغه:

 ومما يثار في هذا الصدد اشتراط التعويض عن تأخير السداد في العقد نفسه، ثم تفويض التقدير إلى القضاء أو إلى التحكيم، أو إلى معيار محدد، فهل يجوز للبنك الإسلامي إدخال هذا الشرط في العقد نفسه، أو في ملحق به ؟

هذا ما اختلف فيه المعاصرون على رأيين:

الرأي الأول: الجواز:

ذهب جماعة منهم الشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ محمد الصديق الضرير، والشيخ عبدالله بن منيع وعليه بعض هيئات الفتوى لبعض البنوك الإسلامية وفتاوى ندوة البركة الثالثة للاقتصاد الإسلامي (فتوى رقم 3/2) نصت على أنه: (( أ ـ يجوز شرعاً إلزام المدين المماطل في الأداء وهو قادر على الوفاء بتعويض الدائن عن ضرره الناشئ عن تأخر المدين في الوفاء دون عذر مشروع، لأن مثل هذا المدين ظالم، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: « مطل الغني ظلم « فيكون حاله كحال الغصب التي قرر الفقهاء فيها تضمين الغاصب منافع الأعيان المغصوبة علاوة على رد الأصل، هذا رأي الأغلبية.

وهناك من يرى أن يكون الإلزام بهذا المال على سبيل الغرامة الجزائية استناداً لمبدأ المصالح المرسلة، على أن تصرف الحصيلة في وجوه البر المشروعة.

ب ـ يقدر هذا التعويض بمقدار ما فات على الدائن من ربح معتاد كان يمكن أن ينتجه مبلغ دينه لو استثمر بالطرق المشروعة خلال مدة التأخير.

 وتقدر المحكمة التعويض بمعرفة أهل الخبرة تبعاً لطرق الاستثمار المقبولة في الشريعة الإسلامية، وفي حالة وجود مؤسسة مالية غير ربوية في بلد الدائن (كالبنوك الإسلامية مثلاً) يسترشد بمتوسط ما قد حققته فعلاً تلك المؤسسات من ربح عن مثل هذا المبلغ للمستثمرين فيها خلال مدة التأخير.

ج ـ لا يجوز الاتفاق بين الدائن والمدين مسبقاً على تقدير هذا التعويض، لكي لا يتخذ ذلك ذريعة بينهما إلى المراباة بسعر الفائدة )).

وقد استدل المجيزون بحديث: (مطل الغني ظلم) وحديث: (ليّ الواجد يحل لعرضه وعقوبته) وحديث: (لا ضرر ولا ضرار) كما استندوا إلى النصوص الواردة في أن المسلمين على شروطهم، ولكن الاستثناء (إلاّ شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رد عليهم، كما استندوا على أن الأصل في الشروط الإباحية كما سبق.

ويقول الأستاذ الزرقا: (إن مبدأ تعويض الدائن عن ضرره نتيجة لتأخر المدين عن وفاء الدين في موعده مبدأ مقبول فقهاً، ولا يوجد في نصوص الشريعة وأصولها ومقاصدها العامة ما يتنافى معه، بل بالعكس يوجد ما يؤيده ويوجبه، واستحقاق هذا التعويض على المدين مشروط بألا يكون له معذرة شرعية في هذا التأخير، بل يكون مليئاً مماطلاً يستحق الوصف بأنه ظالم كالغاصب) ثم استند على أربع مقدمات تمهد الوصول إلى هذه النتيجة وهي:

1 ـ أن تأخير الدين مطلاً يلحق ضرراً بالدائن بحرمانه من منافع ماله مدة التأخير، ويعد ظلماً مما يوجب مسؤولية المدين عنه.

2 ـ إن تأخير أداء الدين عن موعده بلا عذر شرعي أكل لمنفعة المال بلا إذن صاحبه مدة التأخير، مما يوجب مسؤولية الأكل.

3 ـ أن معاقبة المدين المماطل لا تزيل الضرر الذي لحق الدائن، ولذلك يبقى له الحق في التعويض المالي وفقاً لقاعدة « الضرر يزال «.

4 ـ إن المدين المماطل إذا لم يلزم شرعاً بالتعويض المالي يؤدي ذلك إلى المساواة في النتيجة بينه وبين المدين العادل المؤدي، فكيف يستوي الظالم والعادل ؟

 ولا يقال: إن المماطل ينال عقابه يوم القيامة، كما أن الثواب يناله العادل ؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية لم تكتف بالجزاء الأخروي في حقوق العباد، بل جعلت لها حماية وضوامن قضائية. ثم قاس المدين المماطل على الغاصب لعين مالية من حيث إن منافع العين المغصوبة مضمونة عليه.

 وأفاض الشيخ عبدالله بن منيع في استعراض الأدلة والنصوص الدالة على هذا الرأي يمكن تلخيصها فيما يأتي:

أولاً: أن مطل المدين الغني القادر على الأداء ظلم باعتباره عدواناً وتجاوزاً على حقوق الآخرين، ثم أورد النصوص الدالة على حرمة مال المسلم، وعلىأن مطل لاغني ظلم موجب للعقوبة البدنية من الحبس والإيذاء. كما استعرض نقولاً من الفقهاء وشراح الحديث حول الموضوع نفسه.

ثانياً: جواز العقوبة المالية، أو العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، وذكر في ذلك اختلاف الفقهاء بين المانعين وهم الجمهور والمجيزين وهم الأقلية من بينهم ابن تيمية، وابن القيم.

جواب وتوضيح

 من الجدير بالذكر أن الأمر الأول محل اتفاق ولكنه لا يلزم منه أبداً جواز اشتراط التعويض المالي لصالح الدائن بسبب المطل، وأما الأمر الثاني فعلى الرغم من أنه مختلف فيه،ومع ذلك لا يلزم منه جواز اشتراط التعويض المالي لصالح الدائن، لأن العقوبات (ومنها التعزير) تعود صلاحية فرضها وتقديرها إلى الدولة ومؤسساتها القضائية، وأن الغرامة المالية الناتجة منها لا تكون لصالح الأفراد بل لصالح خزينة الدولة ـ كما سبق ـ.

ثالثاً: التعويض عن المنافع الفائتة أو المنافع المتوقع فواتها جائز، وذكر هنا نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله في الاختيارات: (ومن مطل صاحب الحق حقه حتى أحوجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المماطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد) وقوله: (لو غرم بسبب كذب عليه عند لي الأمر رجع به على الكاذب) ثم نقل عن صاحب الانصاف نحوه، كما نقل فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم بصدد ما غرمه الدائن بسبب الشكاية على المدين.

 وعند التدبر في هذه النقول نجد انها لا تدل على المقصود، فهذه من المصاريف التي تكبدها الدائن فعلاً، وكلامنا في اشتراط التعويض عن الأرباح المتوقعة التي فاتت على الدائن بسبب المماطلة، وشتان الفرق بين الحالتين.

كما ذكر الشيخ فتوى هيئة كبار العلماء في الشرط الجزائي، ولكن هذه الفتوى في الشرط الجزائي على العمل والتنفيذ، حيث جاء فيها: (وبتطبيق الشرط الجزائي عليها في الحالة المذكورة ـ وظهور انه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد، إذ هو حافز لاكمال العقد في وقته المحدد له ….وفضلاً عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام، حيث إن الاخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع.…..). ولذلك لا أرى أن هذه الفتوى تشمل الحالة التي نحن بصددها.