على الرغم من تشجيع الحكومات في مجال التهرب من الضريبة، ومحاولة المشرعين الوضعيين سد كل الثغرات تشديد العقوبات وتقرير عدة ضمانات لمكافحة التهرب لما له من آثار خطيرة على الدولة لكنه مع ذلك لا تزال الحكومات المعاصرة تعاني من التهرب من الضرائب ومن الحيل الكثيرة التي يستفيد منها أصحاب الأموال بل يشارك فيها مكاتب المحاماة والمحاسبة والتدقيق من خلال ثغرات في القانون ويطلق عليه (التهرب المشروع) وقد يكون التهرب عن طريق إقرار غير صحيح أو نحو ذلك[1] .


وأما الشريعة الإسلامية فقد وضعت ضمانات في غاية من الأهمية لدفع الزكاة منها :


أولا: ضمانات دينية وخلقية، حيث يشعر المزكي بأن الزكاة ليست علاقة بينه وبين الدول بل علاقة بينه وبين ربه الذي لا تخفى عليه خافية، العليم الذي يعلم مافي الصدور من نيات وقصود، ولذلك يقدم عل دفعها ابتغاء وجه الله تعالى ولذلك لايمكنه التهرب منه بل يتسابق بدفعها حتى يؤدي هذا الواجب التربية الدينية العقيدية والأخلاقية من خلال نصوص الشرع تربي المسلم على هذا الأداء الطوعي وتجعله يحب ماعند الله تعالى أكثر من أي شيء أخر، بل تجعله يؤثر ذلك على حاجيات نفسه، وقد دلت السنة أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ربوا هذه التربية كيف استجابوا لأوامر الله تعالى ونواهيه حيث قالوا جميعا:


انتهينا حينما قال رب العالمين في الخمر” إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فأجتنبوه لعلكم تفلحون” إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون )[2]


بينما لم تستطيع أمريكا بتشريعاتها ووسائلها المتعددة في عام 1929م إلى عام 1933 أن تنفذ على شعبها منع الخمور بعد أن حرمها الكونجرس الأمريكي، وهكذا الامر في الزكاة حيث نجد أن أمثلة رائعة في هذا المجال حيث كان أصحاب الأموال يعطون خيرة أموالهم طواعية إلى عمال الصدقة[3].


 


ثانيا: الضمانات القانونية والتنظيمية:


ولم يكتف الإسلام بالضمانات السابقة على الرغم من أهميتها وكفايتها ولا سيما في المجتمع المسلم وإنما أضاف إليها ضمانات قانونية وتنظيمية تضمن بها الدولة تحصيل الزكاة منعا لضعفاء الدين أن يتهربوا منها، وذلك من خلال تشريع مايأتي:



أ – الأمر بمعاونة الجباة وعدم إخفاء شيء منهم، وإرضاءهم دون تعسف وتجاوز للمقادير، حتى عقد مسلم: باب إرضاء السعاة، فروي فيه بسنده عن جدير بن عبد الله قال: جاء ناس من الأعراب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ناسا من المصدقين (أي السعاة العاملين) يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ارضوا مصدقيكم) قال جرير: ماصدر عني مصدق منذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو عنى راض[4].


ب – إبطال الحيل في الزكاة وغيرها صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال  بالنيات)[5]، وقد استدل البخاري على بطلان الحيل بحديث أنس في فرائض الصدقة حيث قال: إن أبا بكر رضي الله عنه كتب له: أتاني فرض رسول الله صلى لله عليه وسلم ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة[6] وقد نص الفقهاء على حرمة الحيل التي تؤدي إلى إسقاط واجب، أو فعل منكر، يقول أبو يوسف: لا يحل للرجل إذا كان يؤمن  بالله واليوم الآخر منع الصدقة ولا إخراجها عن ملكه إلى ملك جماعة ليفرقها بذلك فتبطل الصدقة عنها ولايحتال في أبطال الصدقة بوجه من الوجوه[7].


ج- تقرير عقوبات مالية وجنائية على الممتنع عن الزكاة فقد سل الخليفة الأول السيف ضد الممتنعين عن الزكاة وقال قولته المشهورة، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها[8] وقد خاض حربا في وقت حرج جدا لأجل تنفيذ أحكام الله وحقوق الفقراء وبهذا فإن هذه الحادثة تعتبر الأولى من نوعها على مر التاريخ أن تخوض الدولة الحرب لأجل الفقراء قال الشوكاني: وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن مانع الزكاة يقاتل حتى يعطيها[9].


ثم إن الممتنع الفرد إذا كان إمتناعه لأجل عدم الإيمان بالزكاة فهو كافر مرتد بالإجماع وحكم المرتد القتل لأنها مما علم في الإسلام بالضرورة وإن كان لغير ذلك فيجبر على الدفع ويقاتل بكل الوسائل المتاحة حتى يدفعها كما أن هذا الحق ثابت لا يسقط بالتقادم بل هو دين يدخل ضمن ديون التركة[10].


وهنا يثور تساؤل حول مدى تقرير العقوبة على من أخفى زكاته أو امتنع عن أدائها فهل يعاقب؟


لا خلاف بين الفقهاء فيجوز العقوبات التعزيزية في مثل هذه المنكرات ولكن الخلاف يثور في مدى جواز تقرير العقاب بالغرامة المالية؟ ذهب جماعة من الفقهاء[11] منهم الشافعي في القديم وأبن راهوية وأبو بكر الحنبلي إلى جواز تغريمه مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن منعها فإنا أخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ..[12] وهذا الحديث رواه أحمد والحاكم والنسائي وأبو داود والبيهقي واختلف في سنده ولكنه ينهض حجة حيث صححه بعض وحسنه آخرون وهذا واضح في الدلالة على إقرار عقوبة مالية على الممتنع كما أن هناك أدلة أخرى من السنة على هذا المبدأ ليس في مجال بحثها[13] إضافة إلى جواز حبسه عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( مطل الغني ظلم ) وفي رواية ( يحل عرضه وعقوبته )[14]


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


([1])  د. بركات : المرجع السابق ص 86


([2])  سورة المائدة الآية 90-91


([3])  يراجع في معرفة هذه القصص الرائعة ويراجع تفسير ابن كثير كتب الصحاح والسنن وكذلك يراجع : فقه الزكاة 2/1065- 1067


([4]) صحيح مسلم – كتاب الزكاة الحديث 989- 2/685 ورواه احمد في مسند 4/362.


([5])  حديث متفق عليه : انظر صحيح البخاري مع الفتح 1/685 ومسلم 3/1515 وسنن أبي داود مع العون 6/284 والنسائي 1/51 وابن ماجة 2/01433


([6])  صحيح البخاري مع الفتح الزكاة 3/0314


([7])  الخراج – تحقيق د0 البنا – ص 175 ويراجع : القواعد النورانية لابن تيميه ص 89 – وفقه الزكاة 2/1069 .


([8])  صحيح البخاري مع الفتح كتاب الزكاة 3/262 مسلم وسنن الترمذي مع تحفة الاحوذي 7/333 والنسائي – كتاب الجهاد 6/4-7 ومسند احمد 1/19- 35/26 – 47/48 ،2/538-529


([9])  نيل الاوطار – ط0 دار الجبل لبنان 4/0178


([10])المجموع للنووي 5/287 والمغني لابن قدامه 2/0272


([11])  مسند احمد 5/2/4- ونيل الأوطار 4/0179


([12])  نيل الأوطار 4/0179


([13])  نيل الاوطار 4/0181


([14])  انظر صحيح البخاري مع الفتح 4/464 ومسلم 3/1197 وسنن أبي داود مع العون 9/195 والترمذي مع التحفة 4/535 وابن ماجة 2/803 والسنن الكبرى 6/70 والنسائي 7/278 والام 2/203 واحمد 2/0463


 اعلى الصفحة