جريدة الرؤية – خاص

استكمال للحلقة الأولى عن المصرفية الإسلامية التي نشرتها “الرؤية” الأسبوع الماضي، تستعرض الجريدة اليوم جانب جديد من أهم ما تناولته الدراسة التأصيلية للاستاذ الدكتور علي محي الدين القره داغي الأمين العام لاتحاد العلماء المسلمين، والتي جاءت بعنوان “الموجز في الصيرفة الإسلامية وعمليات التمويل والاستثمار الإسلامي وأخلاقيات العمل المالي الإسلامي”.
ويضع القره داغي في الدراسة ضوابط مختلفة لفتح البنوك التقليدية نوافذ إسلامية، والشروط التي ينبغي اتباعها فيما يتعلق بالاستثمار، والتمويل في المصارف الإسلامية وأسسه وأدواته بالإضافة إلى السيولة وأدواتها وأنواع العقود.
وتكتسب الدراسة أهمية خاصة كون السلطنة ستشهد خلال الفترة المقبلة حضورا للمصارف الإسلامية بعد السماح بفتح أول بنك اسلامي، وكذلك فتح البنوك التقليدية نوافذ مصرفية لها تتعامل بالمنتجات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية.
ويشغل الدكتور علي القره داغي منصب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كما أنه انتخب حديثا نائبا لرئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وهو استاذ متفرغ بجامعة قطر، ورئيس مجلس أمناء جامعة التنمية البشرية، ورئيس لعدد من الهيئات الشرعية.

ضوابط فتح نوافذ إسلامية

وتناقش الدراسة ضوابط قيام البنوك التقليدية بفتح فروع أو نوافذ إسلامية لها، وتقول: أنه يجب أن تصدر الموافقة بإنشاء فرع إسلامي من الجمعية العمومية للبنك، ثم من الجهات الحكومية (مثل المصرف المركزي ووزارة الاقتصاد). وذلك حتى يكون للفرع رسميته وشخصيته القانونية، كما يجب أن يخصص مبلغ مناسب من رأس مال البنك للفرع الإسلامي، وأن يكون للفرع إدارته المستقلة من حيث الجانب المالي ونحوه، بحيث يكون الفرع مرتبطا بلجنة تنفيذية من مجلس الإدارة أو نحو ذلك، يكون الفرع الإسلامي قدارا على اتخاذ القرارات المناسبة دون خضوع لما يخص البنك التقليدي من تصرفات، وآليات وائتمانات واعتمادات قد لا تتفق مع مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، كما أنه يجب أن تكون للفرع ميزانيته الداخلية المستقلة من حيث الأسس والضوابط والمصطلحات الإسلامية التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية.
وأوضحت الدراسة أن الفروع الجديدة يجب أن تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، ومبادئها التزاما كاملا من خلال وجود هيئة للفتوى والرقابة الشرعية، ووجود تدقيق شرعي قوي و متخصص.

الاستثمار والتمويل الإسلامي

ويعرِّف الدكتور علي القره داغي الاستثمار في دراسته بأنه- إصطلاحا- استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية (السلع والخدمات)، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والصكوك، ونحو ذلك.
أما التمويل الإسلامي فيقصد به في الاصطلاح توفير السيولة المالية لتغطية حاجة المتعاملين مع المؤسسات المالية بطرق مشروعة.
ويعرِّف أدوات الاستثمار والتمويل على أنها العقود، والوسائل التي يتم من خلالها الاستثمار أو التمويل الإسلامي، وتشمل العقود التي يتم بها الاستثمار أو التمويل، كعقود البيع والسلم والإجارة العادية والمنتهية بالتمليك والمرابحة والاستصناع ونحوها، كما تشمل الآليات المعاصرة مثل الأسهم والصكوك الإسلامية، ويمكن اختصار ذلك في الاستثمار المباشر، وغير المباشر.

أسس الاستثمار الإسلامي

وتوضح الدراسة أن المنهج الإسلامي يختلف في الاستثمار عن المناهج الأخرى من حيث الأسس والخصائص والأدوات حيث يقوم منهج الاستثمار والتمويل على مجموعة من الأسس والركائز، أولها ربط المال واستثماره بالعقيدة أي البعد عن كل ما يخالف الشرع مبدئيا، وثانيا أساس أن الأصل في الأشياء، والعادات والمعاملات الإباحية، حيث أن مقتصى التسخير هو الإباحة والتمكين فكل شيء في الاستثمار مباح ما لم يرد نص بتحريمه.
أما الأساس الثالث فهو الإعمار والتنمية، وقد أشارت الدراسة إلى ما ذكره الدكتور يوسف إبراهيم والدكتور رفعت العوضي أن من أسس الاستثمار الإسلامي الإلزام بالتشغيل الكامل لرأس المال، والإلزام بأن يغطي الاستثمار الأنشطة الاقتصادية الضرورية للمجتمع، وأن يكون أسلوب مشاركة رأس المال كأحد عوامل الإنتاج مع العوامل الأخرى يستهدف الإنتاج، وليس مجرد الحصول على دخل.
كما أن أساس الإعمار والتنمية في الاستثمار الإسلامي يستند على ضرورة استثمار رأس المال في تنمية العنصر البشري كما تمت إضافة عنصر آخر يتمثل في تحقيق أهداف مفيدة للفرد والمجتمع، حيث لا يجوز أن يكون عبثاً ودون فائدة ويستلزم أيضا الإحساس بالمسؤولية أمام الأجيال اللاحقة.

المشاركة الاستثمارية

أما الأساس الرابع للاستثمار في المصارف الإسلامية فهو المشاركة الحقيقية القائمة على أن الغنم بالغرم، والخراج بالضمان فمن الأسس المهمة في مجال الاستثمار أن تقوم العلاقة بين المستثمر والمستثمر له أو بين الشركاء أو بين رب المال والمضارب أو الوكيل (المدير) على أساس العدالة، والمشاركة الحقيقية في تحمل المسؤولية وفي الأرباح والخسائر كل بحسب ماله وبالنسبة للمضاربة، فإن المضارب قد خسر جهده في مقابل أن رب المال قد خسر جزءاً من ماله، لذلك لا يجوز قطع المشاركة من خلال تحميل أحد الطرفين الضمان، أو من خلال تحديد مبلغ من المال لأحدهما مطلقاً، أو تحديد نسبة من الربح لرب المال مطلقاً، أو أن يكون له أولوية في الحصول على رأس ماله قبل دفع الديون والخسائر، أو نحو ذلك.
ولكن هذا لا يعني التساهل في الضمانات، أو أن الشريك أو المضارب، أو الوكيل بالاستثمار (المدير) بمنأى عن المساءلة فهؤلاء ضامنون في حالات التعدي، أو التقصير أو الإهمال، ومخالفة الشروط، بل إن الأصل الذي يقضي بأنهم يصدقون دون دليل ينقلب إلى عدم تصديقهم إلاّ بدليل في حالة ما إذا وجدت تهمة، أو قرينة معقولة، مثل أن تكون هذه الصفقات قد حققت أرباحاً في السوق، في حين أن المدير (المضارب، الشريك، الوكيل) يدعي غير ذلك.

القروض والمضاربة

أما الأساس الخامس للاستثمار وفقا للدراسة فهو العدل في القرض أو المضاربة فإن عقد القرض له كفتان، كفة المقرض التي وضعت فيه إيجابية أن ماله مضمون في جميع الأحوال بمجرد القبض، وسلبية أنه ليس له حق في أي ربح أو زيادة، وكفة المقترض التي وضعت فيه إيجابية أن نتائج هذا القرض له وليست لغيره، وسلبية أن المال مضمون عليه مطلقاً، وبذلك تعادلت الكفتان، وهو العدل المقصود .
ولذلك لا يجوز في القرض (أو الديون الثابتة) أي زيادة مطلقاً، أما في المصارف التقليدية فهناك كفة المقرض (الدائن) التي يوجد فيها الإيجابيات والحقوق، فماله مضمون، وله زيادة مضمونة مطلقاً ولا يتحمل أي مسؤولية في حين أن كفة المقترض (المدين) مثقلة بالواجبات والسلبيات، وهي أن المال عليه مضمون مطلقاً وإن الزيادة مضمونة عليه مطلقاً ربح، أو خسر.
وكذلك فالمضاربة لها كفتان: كفة رب المال التي وضعت فيها إيجابية أن له نسبة من الربح المحقق، ومشاركة في نتائج جهد المضارب، وأما كفة المضارب فقد وضعت فيها إيجابية أن المال غير مضمون عليه (إلاّ في حالات التعدي والتقصي)، وسلبية أن نسبة من جهده يذهب إلى رب المال.
أنواع العقود

فصلت الدراسة العقود في عدة أنواع منها عقود المعاوضات، وهي التي يكون الغرض منها تمليك العين بعوض، مثل البيع والإجارة، حيث يشترط فيها مجموعة من الشروط والضوابط، ومنها عدم جواز الغرر، والربا، وتحقيق التملك.
وعقود التبرعات والغرض منها التملك بدون عوض، حيث يجوز فيها الغرر ولها شروط، وهي عدم استغلالها للاسترباح، أو الذريعة إلى الربا من خلال جمعها مع عقود فيها السلف والدين.
وعقود التوثيق، وتهدف إلى تمكين الدائن من الاطمئنان على وفاء دينه، مثل الرهن والكفالة، ولها شروط من أهمها أن لا تقضي على أصلها، فمثلاً لا يجوز في الكفالة أخذ الأجر إلاّ بمقدار الجهد، ولا يجوز في الرهن أن يستفيد من المرتهن من العين المرهونة بدون مقابل عادل للراهن.
بالإضافة إلى عقود الاطلاقات والتوكيلات، والغرض منها إطلاق يد الغير لمن لم يكن له التصرف من قبل العقد، ولها شروط من أهمها الحفاظ على مقتضياتها، وعدم استغلالها في غير ما وضعت له.
وعقود الشركات التي تهدف للاشتراك في الربح، ولها شروط من أهمها عدم قطع المشاركة، وتحقيق العدالة، وعقود الحفظ والغرض منها حفظ المال لصاحبه، مثل الوديعة (بمعناها الفقهي) حيث لا يجوز للمودع عنده التصرف فيها.
وأخيرا عقود الأمانات، أي القائمة على أن اليد فيها يد أمانة مثل الوكيل، والمضارب (المدير) ولذلك لا يجوز تضمينهم بالشروط، وإنما يصبحون ضامنين بالتعدي والتقصير.

السيولة في المؤسسات المالية الإسلامية

وتفرق الدراسة بين 3 أنواع من السيولة الأول هو النقود، أي العملات المتوافرة لدى الشخص (الطبيعي أو الاعتباري)، والودائع الجارية (الحساب الجاري) لدى البنوك، وهي نقود عالية الجودة يرمز إليها في علم الاقتصاد بـ (M1)، والنوع الثاني هو الودائع الآجلة لدى الجهاز المصرفي، وودائع صندوق التوفير، والشيكات السياحية ويعرف هذا بالرمز (M2) الذي يشمل أيضا محتوي (M1) .
أما النوع الثالث فهو الودائع الحكومية لدى الجهاز المصرفي، ويرمز هذا القسم بـ (M3) وهو يشمل  محتوى (M2) أيضاً وهذا القسم يمثل إجمالي السيولة المحلية في الاقتصاد القومي.

أما عن الفرق بين السيولة في المؤسسات المالية الاسلامية والمؤسسات النقدية هو إن السيولة في المصارف الاسلامية أخص من السيولة في البنوك النقدية، وذلك لأن الودائع ما عدا الحساب الجاري في البنوك النقدية كلها قروض مع فوائد في حين أنها أموال مستثمرة عن طريق المضاربة الشرعية في البنوك الاسلامية، وبالتالي فإن تسييلها يحتاج إلى تنضيض حقيقي بالتصفية أو بالتنضيض الحكمي (والمراد بالتنضيض الحكمي تقويم الموجـودات من عروض وديون بقيمتها النقدية، كما لو تم فعلا بيع العروض وتحصيل الديون، أما التنضيض الحقيقي فهو يتطلب التصفية النهائية للمنشآت، وأوعية الاستثمار المشتركة، كالصناديق الاستثمارية ونحوها) وبيع كل الموجودات، وتحصيل جميع الديــون، وذلك بعد استعراض البحوث التي قدمت، والمناقشات المستفيضة حول الموضوع، ومن هنا فإن المصرف المودع عنده (المضارب) ليس ملزماً برد الأموال إلا حسب العقد، وبعد التنضيض، ولكن العرف المصرفي قد جرى بإن المصارف الإسلامية لن تتأخر عن الدفع عند الطلب غير أن ذلك الحق ثابت لها شرعاً وقانوناً حسب العقد، ولذلك فإن الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية لا تدخل في السيولة على وجه الحقيقية، والفعل ولكنها ملحقة بها عرفاً وقوةً وواقعاً.
وتستنتج الدراسة أن السيولة الفعلية في الاقتصاد الإسلامي هي توافر النقود الكافية لمواجهة الالتزامات الحالة والمتطلبات الخاصة بسير العمل من العملات الموجودة في الخزنة أو في الحساب الجاري على أساس أنه أمانة لدى البنك او قرض حال يجب رده عند الطلب.
 
إدارة السيولة
وتوضح الدراسة أن إدارة السيولة تعني القدرة على تحقيق التوازن بين الحفاظ على كمية السيولة المطلوبة للوفاء بالالتزامات، ولسير العمل وبين استغلال السيولة وإشغالها في التمويل والاستثمار.
وهذه السياسة المتوازنة ليست سهلة المنال، وإنما تحتاج إلى استراتيجية مدروسة لإدارة السيولة تعتمد على جناحين مهمين، الأول يعني بوضع سياسة وقائية متزنة من الوقوع في أزمة السيولة بحيث يجب الابتعاد عن كل الأسباب المؤدية إلى أزمة السيولة، والثاني يعتمد على وضع سياسة عملية متزنة لإدارة السيولة.
وبالطبع فإن أهم الأدوات المالية النقدية لإدارية السيولة تكمن في الحساب الجاري، والودائع والأسهم والصكوك الإسلامية وأما العقود المالية غير النقدية لإدارة السيولة فهي: الاستصناع والاستصناع الموازي، والسلم والسلم الموازي حيث إنهما يحلاّن مشاكل السيولة لدى أصحاب المصانع، والمقاولات والموازع والمضاربة وغيرها من الأدوات الشرعية.  

التطبيقات المعاصرة في البنوك الإسلامية

وأكدت الدراسة أن الشركات تطورت على نحو هائل، وأصبحت العمود الفقري للاقتصاد الوطني، سيما الشركات المساهمة، وهذا التطور ما دام لا يخرج عن إطار الثوابت الشرعية والمبادئ العامة فلا مانع منه شرعاً، وتشمل هذه التطبيقات المعاصرة عدة جوانب أولها: تطبيق عقود الشركات القديمة مع شيء من المعاصرة من حيث الآليات والأدوات كما هي فالبنوك الإسلامية تطبق صيغة المشاركة العادية الدائمة بطريقتين هما المشاركة في رأس مال المشروع، والمشاركة في صفقة معينة.
أما الجانب الثاني فهو: تطبيق العقود القديمة مع التحديث بحيث يتم تطبيق المشاركة مع إدخال الجديد فيها مثل المشاركة المنتهية بالتمليك وتسمى (المشاركة المتناقصة) والمشاركةـ مع الوعد بالتمليك- وهي تختلف عن المشاركة الدائمة في الاستمرارية حيث لا يريد البنك أو المستثمر منذ التعاقد الاستمرار في المشاركة.