هناك عدة حلول في هذا المجال يمكن أن نقسمها إلى حلول نظرية ، وحلول عملية ، نذكر هنا أهمها :

 أولاً ـ السعي الحثيث لدى الدول الغربية للوصول إلى الاعتراف بالإسلام ديناً رسمياً له ولأتباعه من الحقوق ما للديانات الأخرى وأتباعهم ، علماً بأن الإسلام هو الدين الثاني بعد المسيحية لدى هذه الدول ، ولكنه لا يزال غير معترف به في معظم البلاد الغربية ، وحينما يسأل المسؤولون فيها ، يقولون : المسلمون مختلفون  لا يجتمعون على مرجعية واحدة ، فنحن نعترف بأي إسلام ، أو بأي جمعية ؟ !

ولذلك فإن تحقيق هذا الهدف لن يتم إلاّ من خلال ما يأتي :

1.         توحيد الأقليات الاسلامية لدى الغرب ، أو على الأقل توحيد مراكزها ، من خلال الاتفاق على وجود مجلس واحد يضم الأقلية المسلمة في الدولة التي هي فيها ، وقد تحقق ذلك في بعض الدول وكان لتحقيقه أثر جيد في تعامل الدولة مع المجلس المختار أو المنتخب .

2.         دعم الدول الإسلامية للأقلية المسلمة في الدول الغربية دعماً سياسياً ـ ليس من باب التدخل في شؤون الغير ـ وإنما من باب العناية بها وبشؤونها ، وبما يصيبها ، والسؤال عنها ، ودعماً مادياً لمراكزها ، ومدارسها ، وكلياتها ، ومؤسساتها المدنية .

3.         اتفاق المسلمين على مجموعة من الأهداف العامة تؤدي إلى الاندماج الايجابي في المجتمعات الغربية ، أي اندماج دون ذوبان لهويتهم الإسلامية .

4.         أن تثبت الأقلية المسلمة وجودها الايجابي النافع لتلك البلاد ، وذلك لأن معظم الأقلية المسلمة ـ أي غير المواطنين الأصليين الذين أسلموا ـ أنهم جاؤوا إلى هذه الدول وبخاصة أوروبا الغربية إما فراراً بدينهم ، وخلاصاً لأنفسهم من بطش الطغاة والمستبدين ، وإما للاسترزاق والاكتساب .

   وبالتالي فإذا كانوا عبئاً ، أو أصبحوا عبئاً اقتصادياً ، أو أمنياً ، أو اجتماعياً ، فإن المواطنين الأصليين لا يرحبون بوجودهم وحتى لو لم يستطيعوا أن يعملوا شيئاً ضد الأقلية المسلمية بسبب القوانين الموجودة ، لكنه يزكى نار النازية والعنصرية ، ويزيد من شعبيتها ، وحينئذ يمكنهم ذلك من فوزها في المستقبل ، ويعطيها مبررات كثيرة وكبيرة لتغيير القوانين .

  وقد حدث مثل ذلك حينما كان لليهود أقلية في أوروبا وصدرت منهم تصرفات مضرة أعطت تبريرات ( بحق أو بباطل ) لطردهم من أوروبا بين 1450م إلى 1500م ، ثم عاد اليهود وقد غيروا سياستهم فمسكوا بزمام العلم ، فخرج منهم عدد كبير من العلماء الذين كان لهم تأثيرهم في العلوم والانسانية والطبيعية ، وفي مختلف مجالات الحياة ، والفنون ، فأمسكوا بزمام المال والاقتصاد فأصبحوا اليد العليا ، وأضافوا أليهما أمراً ثالثاً وهو الإعلام فتمكنوا فعلاً من أوروبا وأمريكا ، بل من العالم على الرغم من قلتهم حيث إن عددهم ليس كبيراً ، فاليهود الأصليون في حدود 36 مليون نسمة ، ولكنهم يتحكمون في سياسات العالم بالمال والإعلام ، والعلم والسياسية ، ودون الإثارة ، ولذلك لم ينشؤوا في العالم الغربي إلى اليوم حزباً واحداً تحت غطاء اليهود أو باسم اليهود ، ولكنهم موجودون في كل الأحزاب الغربية المؤثرة وجوداً وفعلاً .

  وانظر في المقابل كم حزباً إسلامياً أنشئ في الغرب ، والمسلمون أقلية ، ومعظمهم يعيشون على مساعدات ، أو في أعمال بسيطة ، بل أنشئ في بريطانيا : البرلمان الإسلامي على غرار البرلمان الأوروبي ، مع أن المسلمين في بريطانيا عدد بسيط جداً ، بل إن عدد البرلمانيين في جميع أوروبا لا يزيد على عدد أصابع اليدين ، وهذا يثبت أننا عاطفيون نموت في الشعارات البراقة ، ونغتر بها كثيراً ، وتُحركنا حيث شاءت ، مع أن الإسلام هو دين العقل ، ودين العمل قبل القول ، حتى إن الله تعالى سمى القول الحسن الممتاز دون العمل به إثماً كبيراً فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)  ثم عقب الله على ذلك بأن الله يحب المجاهدين بالمال والنفس والعلم والاعلام ، وبكل ما فيه تأثير بشرط أن يكونوا متحدين صفاً واحداً كالبنيان المرصوص وبالتالي فلا يحب المنادين بالجهاد دون تنفيذه ، ولا يحب المجاهدين المفترقين مهما كان جهادهم فقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )  .

5.         القيام بتشكيل مجالس العائلة المعمول بها في الغرب ، ويقصد به إنشاء مجلس من الأقرباء للولاية على القاصر ، حيث يرتبط هذا المجلس بالقاصرين الذين لا يملكون القدرة على التصرف في شؤونهم بالطريقة المنشودة والمشروعة ، ويتم تعيين أعضاء مجلس العائلة من طرف القاضي كما نص على ذلك الفصل 407 من القانون المدني الفرنسي الذي يشترط أن يراعى في ذلك قرابتهم من القاصر ومحل إقامتهم ، وسنهم ، وقدرتهم على رعاية مصالحه التي منها مصلحة الزواج ، والربط بالجنس الآخر أيضاً  ، إن أغلب القوانين الغربية قصرت دور مجلس العائلة في القيام بشؤون القاصرين المادية والمعنوية ، كما نص على ذلك الفصل 407 من القانون المدني الفرنسي ، وكذلك الفصلان 36 و37 من القانون الهولندي الذي نص على ” حق الطعن في بعض التصرفات ” منها النكاح .

 اعلى الصفحة

ونريد من الأقلية المسلمة في الدول الغربية أن تنشئ مثل هذا المجلس ، وتطالب بأمرين آخرين بسبب خصوصية الأحكام الشرعية التي لا تراعيها معظمها القوانين الغربية ، وهما  : 

‌أ)          مجلس العائلة بصلاحيات أوسع ، وهو ما سماه القرآن الكريم ( حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)    ، إن هذا المجلس في القرآن الكريم له صلاحيات تختلف فيها عن مجلس العائلة في القوانين الغربية الذي يقتصر دوره على الاشراف على القاصر دون فصل المنازعات ، وذلك لأن مجلس الحكمين في الشريعة الإسلامية الغراء يقتصر دوره في حل المنازعات بين الزوجين حيث يقول تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً)  ولكن المجلسين ( أي في القرآن الكريم ، والقانون ) يتفقان في أنهما يتكونان من أقارب الزوجين كقاعدة عامة ، يقول القرطبي : ( والحكمان لا يكونان إلاّ من أهل الرجل والمرأة ، إذ هما أقعد بأحوال الزوجين ، ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه ، فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين )  ويقول القاضي ابن العربي : ( الأصل في الحكمين أن يكونا من الأهل ، والحكمة في ذلك أن الأهل أعرف بأحوال الزوجين ، وأقرب إلى أن يرجع الزوجان إليهما فاحكم الله سبحانه الأمر بأهل …. )  .

  والذي أريد أن أقوله هنا : أنه يمكن للمسلمين أن يطالبوا بتشكيل مجلس العائلة بالصلاحيتين ، أي صلاحية حل المنازعات ، وصلاحية الاشراف على القصر .

‌ب)        إنشاء مراكز التحكيم الرسمية ، ونشر الوعي بين الأقلية المسلمة للالتزام في عقودهم واتفاقاتهم ، حتى فيما يخص الأسرة بالعودة إلى التحكيم ، وهذا مخرج جيد لا يتعارض مع القوانين الغربية بحكم التوافق والتراضي والتحكيم ، ولذلك أكد المجلس الأوربي للافتاء والبحوث على ” ضرورة سعي المراكز الإسلامية الحثيث لتحصيل موافقة الجهات الرسمية في أوروبا على إعطاء قرارات التحكيم الصادرة عن لجان الإصلاح والتحكيم صفة التنفيذ من الجهات القضائية ”  كما طالب بـ ” التحكيم الشرعي لحلّ المشكلات اليومية للأسرة المسلمة ”  .

6.         اتفاق وجهاء المسلمين في كل بلد أو مدينة على تعيين قاض لهم ، وهذا حل جيد حيث يمكن للأقلية المسلمة أن تجتمع على مستوى الدولة كلها فتختار لنفسها قاضياً أو قضاة يكون لهم مكاتب داخل المراكز الإسلامية ، وكذلك يمكن أن يكتفى في الاختيار باختيار كل منطقة لقاضي أو أكثر .

وهذا الحل ذكره جمهور الفقهاء ، حيث يقول ابن عابدين : ( وأما بلاد عليها ولاة كفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد ، ويصير القاضي قاضياً بتراضي  المسلمين ، فيجب عليهم أن يلتمسوا والياً مسلماً منهم)  ، ومثل ذلك جاء في فتح القدير والبحر الرائق  ويقول ابن فرحون المالكي : ( القضاء ينعقد في وجهين ، أحدهما : عقد أمير المؤمنين ….. والثاني : لو عقد ذوو الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء ، للضرورة الداعية إلى ذلك)  .

يقول الداودي : ( وكل مكان لا سلطان فيه ، او فيه سلطان يضيع الحدود ، او السلطان غير العدل ، فعدول الموضع وأهل العلم يقومون في جميع ذلك مقام السلطان)  .

  والشافعية أصلوا هذا الموضوع من خلال ما ذكره الإمام الجويني الذي خصه بمباحث مفضلة ، قال فيها : ( وقد قال العلماء : لو خلي الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أني قدموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجج من يلتزمون امتثال اشراته وأوامره وينتهون عن مناهيه ومزاجيره …) ثم قال : ( فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء ، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم ، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى السبيل وصار علماء البلاد ولاة العباد ، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم )  .

  ولا يختلف الحنابلة في ذلك يقول القاضي أبو يعلى : ( ولو أن أهل بلد قد خلا من قاض أجمعوا على أن قلدوا قاضياً : نظرت : فإن كان الإمام موجوداً بطل التقليد ، وإن كان مفقوداً صح ، ونفذت أحكامه عليهم )  .

7.         مطالبة الحكومات بتعيين قضاة مسلمين ، وقد أجاز جماعة من الفقهاء الاحتكام إلى القاضي المسلم  الذي عينه حاكم غير مسلم ، وهذا رأي بعض فقهاء الحنفية ، جاء في الفتاوى الهندية : ( والإسلام ليس بشرط فيه ـ أي في السلطان الذي يقلد ، كذا في التاترخانية )  .

وهو رأي بعض الشافعية ، حيث جاء في قواعد العزّ : ( لو استولى الكفار على اقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة ، فالذي يظهر انفاذ ذلك كله ، جلباً للمصالح العامة ، ودفعاً للمفاسد السابقة )  .

  وهذا أيضاً رأي المازري من المالكية ، حيث أجاز تعيين السلطان الكافر القضاة لحجز الناس بعضهم عن بعض فقال : ( تولية الكافر القضاة والأمناء لحجز الناس بعضهم عن بعض واجب …. فتولية الكافر بهذا القاضي إما بطلب الرعية له ، وإقامته لهم للضرورة ، لذلك فلا يقدح في حكمه وتنفيذ أحكامه )  وهذا رأي بعض شراح التحفة  .


اعلى الصفحة