جريدة الوطن ا- الدوحة

 

يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (تحول الفكر المالي إلى علم مستقل للمالية)، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن النظام المالي في الإسلام والإنفاق العام للدولة الاسلامية قديما: الفرع الثاني: النظام المالي في الإسلام:

إن النظام المالي في الإسلام يقوم على أربعة أمور أساسية نذكرها مع أسسها العامة بايجاز، وهي:

أولاً – الإنفاق العام للدولة الإسلامية وأسسه:

يقصد بالانفاق العام، ما تصرفه الدولة من الأموال في المصالح العامة، والمصالح العامة تشمل النفقات الجهادية العسكرية والتعليمية والاقتصادية المشاريع الصناعية والانتاجية والادارية والاجتماعية، والثقافية، ونحوها.

ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مجالات متعددة للإنفاق العام، حيث لم تكن هناك وزارات، ولا موظفون يحصلون على مرتبات ثابتة، وإنما كانت الدولة حينئذ تهتم بمصروفات الجهاد والدفاع، وبرعاية أفراد المجتمع وتحقيق التكافل بينهم، والنهوض بهم، كما أن الزكاة والصدقات تؤول إلى بيت المال، ثم يقوم بيت المال بصرفها على مستحقيها، وكذلك كان للفيء والغنائم مستحقوها الذين حددهم القرآن الكريم.

ولم يتغير الحال في عصر الخليفة أبي بكر رضي الله عنه كثيراً، وإنما حدثت تغييرات جذرية في عصر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اتسعت مساحة الدولة، وزادت واجبات الدولة ووارداتها مما دفع الخليفة عمر للاستفادة من التنظيمات الإدارية السائدة قبله، من وجود دواوين لها، وعطاءات منتظمة وأصبح للدولة موظفون وعمال وجنود دائمون جاهزون للفتوحات الإسلامية، وبالمقابل أصبحت لها موارد أخرى غير الزكاة والغنيمة والفيء من الخراج والجزية والعشور ونحوها.

وكانت السياسة المالية لعمر تسير على أربعة أسس منها:

1.توزيع العطاء على أساس القدم في الإسلام، في بداية خلافته، ثم رجع عنه والكفاية، والجهد، والحاجة.

2.عدم توزيع الأراضي المفتوحة على المجاهدين، بل تركها ليؤخذ منها الخراج لهم فيما بعد، ولجميع الأجيال اللاحقة، والدولة التي ترعاهم.

3.توفير الضمان الاجتماعي للمسلمين وغيرهم من أهل الذمة على أساس:

أ. شمول العطاء لكل مولود من يوم ولادته، حيث كان يحسب له حصة من المواد التموينية.

ب ـ تخصيص الأموال الكافية للمواطنين جميعاً من المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى وغيرهم، وتوفير الحياة الكريمة بعيداً عن الفقر ومذلة السؤال.

4.القضاء على الفقر، وعدم السماح بوجود الفجوة الكبيرة بين طبقات المجتمع، حيث قال مقولته المشهورة: والله لئن بقيت إلى الحول لألحقنّ أدنى الناس بأعلاهم وقد طبق هذه السياسة أيضاً الخليفة السادس عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، ونجح بها في القضاء على الفقر خلال سنتين، وستة أشهر وسبعة عشر يوماً من عمر خلافته.

وكان الخليفة الراشد أبوبكر رضي الله عنه يرى المساواة في العطاء دون تفرقة بسبب القدم في الإسلام، لأن الغرض هو تحقيق التكافل والقضاء على الفقر بين الأجيال الناشئة، حتى جرت مفاوضة في عصره بينه وبين عمر الذي قال له: (أتجعل من شهد بدراً، وبيعة الرضوان، واختص بالسوابق كمن يدخل في الإسلام آنفاً؟ قال أبوبكر: إنما عملوا لله، وإنما أجرهم على الله، وإنما الدنيا متاع). أسس الإنفاق العام: ونستطيع القول إن القواعد والأسس العامة للإنفاق العام والتوزيع العادل في الاسلام هي ما يأتي:

أولاً – التوزيع العادل، وتحقيق العدالة الشاملة وتوفير التكافل والضمان الاجتماعي، والقضاء على الفقر داخل الدولة الإسلامية.

ثانيا- الترشيد في الانفاق أي دون إسراف ولا تبذير أي الاعتدال، وبعبارة أخرى أن يوضع كل درهم في موضعه.

ثالثاً- رعاية الأولويات الإسلامية داخلياً وخارجياً، عسكرياً ومدنياً، ومراعاة فقه الموازنات بكل دقة ووضوح في أوجه الصرف والانفاق مع رعاية أولوية كل ما يحقق التوازن الاجتماعي، وكل ما يزيد في الانتاج والانشاء والتعمير والتعليم والصحة والأمن والدفاع، ويقلل الاستهلاك المستديم.

رابعاً- الالتزام عند الإنفاق في أموال الزكاة، والفيء بالمصارف التي حددها الكتاب والسنة، أي رعاية المصارف الثمانية في الزكاة، ورعاية مصارف الغنمية، اللتين حددهما القرآن الكريم، وما عدا ذلك تطبق عليه السياسة الشرعية في رعاية المصالح ودرء المفاسد، ومراعاة فقه الأولويات.

خامساً- رعاية التوازن بين الصناعة، والزراعة والتجارة، حسبما يحقق مصالح الدولة والمجتمع والأفراد.

سادساً- العناية بالخدمات الانتاجية من نفقات النقل، والتخزين والتأمين، وبمستلزمات الإنتاج، وما يسمى اليوم بالبنية التحتية.

سابعاً- عدم اكتناز الأموال العامة في الخزينة ما دامت هناك حاجة للصرف، حيث كانت سياسة الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما توزيع الفائض في بيت المال على المصالح العامة، وعلى أفراد المجتمع المستحقين، بناءً على أن المجتمع الغني القوي يعني دولة قوية قادرة على جمع المال عندما يحتاج إليه، مع أنهما كانا يحثان الناس على الادخار ومع ذلك لم يكونا حريصين على تكوين فائض كبير لبيت المال.

ولكن هذا لا يعني عدم جواز تكوين الفائض، وإنما المقصود هو أن تكون الأولوية لمصالح الدولة والمجتمع، وأن يستثمر الفائض الموجود. ثامناً- وضع آليات التنفيذ، ومن الجدير بالذكر أن الإسلام حرص أشد الحرص على وضع الآليات العملية لتطبيق هذه الأسس والقواعد ولتطبيق العدالة والمساواة، حتى لا تكون مجرد نظريات، وذلك من خلال ما يأتي:

أ ـ وضع أجهزة كفؤة ومخلصة للتوزيع العادل

ب ـ الاهتمام بالتخطيط والاحصاء الدقيق ـ كما سبق ـ كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أمر بان يكتب له من تلفظ بالاسلام من الناس قال حذيفة: ( فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل….) وفي رواية أخرى: فوجدناهم خمسمائة قال أبو معاوية: ( ما بين ستمائة إلى سبعمائة).

والذي يظهر من هذه الروايات الصحيحة أن هذه الكتابة لم تكن مرة واحدة، بل كانت مرات متعددة، فمرة كانوا خمسمائة، ثم طلب احصاءهم مرة ثانية فبلغوا خمسمائة إلى سبعمائة، ثم مرة ثالثة حيث بلغوا ألفاً وخمسمائة، وفي هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتابع العدد من خلال الاحصاء حتى يقوم بالتخطيط المناسب لذلك، وهناك تأويل آخر رجحه الحافظ ابن حجر وهو أن المراد بالألف وخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلة خاصة وهذا يدل على أهمية تنوع الاحصاءات التي تشمل كافة طبقات الشعب، وأن هذا كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ويدل على هذا حديث ابن عباس قال: ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إني كُتبتُ في غزوة كذا وكذا..) حيث يدل على أن كتابة المقاتلة من عادتهم.

ومهما يكن فإن الحديث يدل على أهمية التخطيط والاحصاءات المتكررة، بل على وجوبها عند تعينها يقول الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد تعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة ممن لا يصلح..، وقال ابن المنير: موضع الترجمة أي ترجمة البخاري باب كتابة الامام الناس من الفقه ألا يتخيل أن كتابة الجيش، واحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية).

ج ـ وضع جهاز قوي مخلص ومتخصص ومستقل، للرقابة والتدقيق، حيث أكد القرآن على أهمية الاشخاص للنجاح والانتصار فقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ولذلك يؤكد القرآن على وجود ثلاثة شروط أساسية للنجاح والتنفيذ هي: الاخلاص والأمانة والاختصاص العلم والقوة، كما دلت عليها قوله تعالى: ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) وقوله تعالى: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).