بقلم ا.د. علي القره داغي
جريدة الوطن – الدوحة
الفقر ليس دليلاً على الإهانة، ولا الغنى دليلاً على التكريم، بل الفقر يتحول مع الصبر إلى نعمة:
إن الإسلام لا يجعل الفقر دليلاً على الإهانة، والغنى دليلاً على التكريم، بل المبدأ الأساس في التفاضل هو العمل الصالح والتقوى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، ولذلك نعى على هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بهذه النظرة فقال تعالى: «فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ»، بل إن الإسلام يغرس في نفس الفقير المسلم أنه إن صبر على فقره فله أجر عظيم عند الله تعالى، وقد يصل به إلى مقام أعظم وأفضل وأكرم في يوم القيامة لدى الحشر، وفي الجنة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء….»، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «قمت على باب الجنة فكان عامة الناس من دخلها المساكين وأصحاب الجدّ- أي محبوسون- غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار».
ولا شك أن هناك أحاديث أخرى في فضل الغنى الشاكر المؤدي لحقوق الله تعالى- كما سبق- ولكن مقصدنا هو أن الفقر مع الصبر والقناعة والزهد، يتحول من النقمة إلى النعمة، ومن الشقاء إلى الإحساس بالأجر والثواب.
معالجة الجانب النفسي للفقير
إن الإسلام في علاجه هذا مع تركيزه على التربية والتزكية، يولي عناية قصوى بالجانب النفسي للفقير من جانبين:
1- أن ينظر إلى من هو أفقر منه، أو إلى من هو مصاب في صحته وماله، أو بعبارة أخرى ينظر إلى من هو أكثر بلاء منه وحينئذ يشكر الله على ذلك، وهذا ما أرشده إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لاتزدروا نعمة الله عليكم»، وفي رواية للبخاري بلفظ: إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه.
2- التركيز على قوة الإرادة، وعدم الاستسلام للفقر والمسكنة، بل الاعتزاز بما أعطاه الله تعالى له «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ»، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه»، ولذلك يكون الفقير المسلم قوي الإرادة والشخصية، لا يستسلم للمسكنة وذل السؤال، بل يسعى جاهدًا لتوفير الرزق الحلال حسب طاقته، وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا، وأتكفل له بالجنة؟ فقلت: أنا فكان لا يسأل أحدًا شيئًا».
3- غرس ثقافة الجمع بين التوكل والأخذ بأسباب الغنى، وذلك لأن التوكل هو الاعتماد الكلي على الله تعالى بقلبه ونفسه، مع بذل كل ما في وسعه في الأخذ بالأسباب الظاهرة، وإلاّ فمن اعتمد على الله دون العمل فهو متواكل وليس متوكلاً، وذلك قدوتنا رسول الله صلى الله عليه كان أكثر الناس اعتمادًا على الله، ثم على الأسباب الظاهرة كما تدل على ذلك سيرته العطرة.
4- الأخذ بكل الأسباب الظاهرة للوقاية من الأمراض، وضرورة الأخذ بكل اللقاحات ضد الأمراض، والحماية من العدوى.
البعد الثالث: الحلّ الخارجي «المتمثل بما على غير الفقراء للقضاء على الفقر»
وهو يتمثل في الواجبات التي فرضها الله تعالى على الدولة، وعلى المجتمع، وعلى الأقارب، والأصول، والفروع، والزوج على ضوء ما يأتي:
أولاً- دور الدولة ومسؤوليتها نحو رعاياها وبخاصة الفقراء:
إن الدولة بجميع المسؤولين بدءًا من رئيس الدولة إلى الوزراء وبقية المسؤولين أصحاب القرار، مسؤولة أمام الله تعالى ثم أمام أهل الحلّ والعقد- مجلس الشورى إن وجد- عن توفير الحياة الكريمة لجميع من يعيش على أرضها حتى من غير المسلمين المواطنين، وعلى هذا تدل مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وإجماع الأمة.
وهذا الدور يتجلى في نظر الإسلام في النقاط الآتية:
1- تهيئة فرص العمل المباشرة للقادرين عليه، وهذا يتطلب قيام الدولة بأمرين أساسيين، هما:
– الأمر الأول: إنشاء جهاز خاص بالتدريب والتوظيف والمتابعة، بحيث يقوم بالتدريب في مختلف مجالات العمل اليدوي والمهني، والفني، والإداري، وتمكين الاستعانة بالخبراء، والمدربين، ومراكز التدريب الخاصة، ويكون من واجبه وضع سياسة واضحة للتدريب على كل ما يحتاج إليه المجتمع، والشركات والمصانع ونحوها، كما يكون ضمن واجباته ومقاصده القيام بالتوظيف، والتعيين، من خلال توجيه العاملين والفنيين والإداريين للوظائف المناسبة، وتعينهم فيها.
ولا ينبغي الاكتفاء بهذا، وإنما لابدّ من القيام بالمتابعة والمراقبة لمعرفة مدى نجاح هؤلاء العاملين في وظائفهم وأعمالهم، ويدل على ذلك ما رواه أنس بن مالك: «أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال لك في بيتك شيء قال بلى حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقدح نشرب فيه الماء قال ائتني بهما قال فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال من يشتري هذين فقال رجل أنا آخذهما بدرهم قال من يزيد على درهم مرتين أو ثلاثًا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدومًا فأتني به ففعل، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشد فيه عودًا بيده، وقال اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يومًا فجعل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فقال اشتر ببعضها طعامًا وببعضها ثوبًا، ثم قال هذا خير لك من أن تجيء والمسألة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو دم موجع»؛ حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشده إلى عمل مناسب، ثم تباعه، وحدد له زمانًا مناسبًا لمعرفة مدى نجاحه، ولذلك قال الشافعية يعطي المحتاج من الزكاة ما يشتري به آلات حرفته- كما سيأتي-.