ا.د. علي محيي الدين القره داغي
جريدة الوطن – الدوحة

 رابعاً: قياساً على بيع العربون وهو كما قال أن يشتري السلعة فيدفع فيها البائع درهماً أو عدة دراهم على أنه إن أخذ السلعة احتسب من الثمن وإن لم يأخذها فذلك للبائع…. قال أحمد لا بأس به، وفعله عمر رضي الله عنه وأجازه ابن عمر.

وبما أن العربون صدر بجوازه قرار رقم 72(3/8) من مجمع الفقه الإسلامي الدولي فإنني لا أناقش جوازه، ولكن أناقشه في القياس حيث قال الشيخ اشتراط التعويض عن الضرر بسبب المطل في الدين على بيع العربون بجامع تفويت المنفعة، حيث قال: (ومثل ذلك مسألة بيع العربون، فإن المشتري يبذل مبلغاً من مقدم بعد تمام عقد الشراء على أن يكون له الخيار مدة معلومة، فإن قرر إمضاء الشراء صار العربون جزءاً من الثمن، وإن قرر العدول عن الشراء صار العربون مستحقاً للبائع في مقابلة عدم تمكنه من عرض بضاعته للبيع بعد ارتباطه مع المشتري بعقد البيع المعلق إمضاؤه على الخيار للمشتري مدة معلومة، ووجه استحقاق البائع للعربون: أنه في مقابلة تفويت فرص بيع هذه السلعة بثمن فيه غبطة ومصلحة للبائع …).

وهذا القياس مع الفارق لعدة وجوه من أهمها:

1 ـ أن المشتري في بيع العربون قد تنازل عن حقه وماله برضائه التام، وهو يملك هذا الحق بدءاً ونهاية، أما العوض الذي يفرض عند تأخير الدين فليس من باب التنازل عن حق ثابت، وإنما هو فرض لتعويض مستقبلي عن منفعة موهومة أو غير متحققة يقبله المدين دون رضاه التام، لأنه لو وجد دون هذا الشرط لما أقدم عليه.

 2 ـ إن أحكام الدين تختلف عن أحكام البيع، فما جاز في البيع قد لا يجوز في الدين، حيث احتاط الإسلام احتياطاً شديداً في الدين حتى لا يترتب عليه الربا المحرم، وقد ذكرنا في المبحث السابق أقوال السلف في أن أية زيادة على أصل الدين ناتجة عن الشرط حرام لا يجوز الإقدام عليها.

 3 ـ أن مبلغ العربون محدد واضح معلوم في حين أن التعويض عن الضرر الناتج عن التأخير في السداد مجهول غرر وجهالة من حيث الوجود، والتحصيل والمقدار والزمن، فجميع أنواع الغرر الفاحش متحقق فيه فكيف يجوز أن يكون مضمناً في العقد؟!

 خامساً: القياس على فوات منافع الأعيان في الغصب من حيث أن المدين المماطل قد اصبح غاصباً بمماطلته فيجوز له التعويض عن المنافع التي فاتته بسبب التأخير عن السداد.

 ويلاحظ على هذا بما يأتي:

1 ـ إن مسألة تعويض منافع الأعيان المغصوبة مسألة خلافية وليس مجمعاً عليها، حيث ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الغاصب يضمن منفعة العين المغصوبة بأجر المثل سواء استوفى المنافع أم تركها، وذهب متقدموا الحنفية إلى أن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب مطلقاً، وذهب المالكية إلى أنه يضمن إذا كان الغاصب قد استعمله أو أجّره.

2 ـ إن القياس هنا مع الفارق، فالأعيان (كالعقار والسيارات ونحوهما) لها منافع متقومة محققة ولذلك يجوز تأجيرها، أما الديون فليست كذلك، بل النقود كلها كذلك، ولذلك لا يجوز تأجيرها، فالفرق واضح بين الدين الموجود في الذمة، والعين الموجودة التي لها منفعة معلومة وذلك لأن الدين ليس له منفعة متقومة شرعاً فلا يمكن قياسه عليها إضافة إلى خصوصية الدين بشأن الربا ـ كما سبق ـ

طريقة الاحتساب للتعويض:

اختلف القائلون باشتراط التعويض عن الضرر بسبب التأخر في السداد في طريقة احتسابه، فذهب بعضهم إلى أن ذلك يتم عن طريق القضاء، أو التحكيم، في حين ذهب بعضهم الآخر إلى أن (خير وسيلة لتقدير التعويض هو أن يحسب على أساس الربح الفعلي الذي حققه البنك في المدة التي تأخر فيها المدين عن الوفاء، فإذا أخر المدين ثلاثة أشهر مثلاً ينظر البنك ما حققه من ربح خلال الأشهر الثلاثة، ويطالب المدين بتعويض يعادل نسبة الربح الذي حققه، وإن لم يحقق البنك ربحاً خلال تلك المدة فلا يطالب بشيء).

عدم جدوى شرط التعويض على الأساس السابق

بناء على المرجعية للتعويض التي ذكرها الفريقان فلا يمكن أن يحقق اشتراط التعويض شيئاً فعالاً لمنع التأخير أو المماطلة، وذلك لأنه إذا كان المرجع القضاء فإن القضاء في بعض الدول الإسلامية لا يحكم بالتعويض عن التأخير، وبعضها لا يحكم إلاّ في حالات معينة، وعلى فرض حكمه بالتعويض يكون التقدير بنسبة الفوائد الربوية الرسمية وهي 1.75% وقتنا الحاضر، فهل يدفع قرض هذه النسبة المدين المماطل إلى الإسراع برد دينه، بل يرتاح من هذا الحكم (إلاّ إذا كان ملتزماً) حيث يدفع فوائد مخفضة جداً أمام فوائد البنوك الأخرى.

وإذا كان المرجع إلى ربحية البنوك الإسلامية للمودعين فهي قليلة لا تدفع المدين المماطل إلى الأداء، بل يظل هكذا يحسب عليه هذه الفوائد المخفضة وهو يستفيد من الدين والسيولة في أمور أخرى، ولذلك كان رأي معظم المدراء التنفيذيين للبنوك الإسلامية أن غرامة التأخير لا تحقق الغرض المنشود ـ كما سبق ـ

 وبهذه الردود على الشيخ ابن منيع يتضح لنا الجواب عما ذكره شيخنا الزر رحمه الله حيث بنى رأيه على قياس المدين المماطل على الغاصب للعين، وقد أوضحنا الفرق بينهما، فمنافع الأعيان المعدة للاستغلال المحققة مال عند جماهير الفقهاء، وأما قابلية الديون أو النقود المحتملة للزيادة فليست مالاً، ولذلك لا يجوز أخذ التعويض عنها، ولا اشتراط شرط في العقد بأخذ التعويض عنها، فبدأ الضمان المالي في الشريعة قائم على أساس المماثلة بين الفائت وعوضه، فالفائت ليس مالاً، وإنما مجرد احتمال في حين أن العوض مال، ولذلك قالوا: التعويضات جوابر.

يقول الدكتور نزيه حماد: (لما كان ظلم المدين المماطل غير قابل للاستدراك بطريق التعويضات الجوابر فقد سعت الشريعة الحكيمة لدرئه بواسطة العقوبات الزواجر، وهذا ما عناه الحديث الشريف: ( ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) حيث فسر الفقهاء العقوبة بالحبس) أو بنحوه من الحكم عليه بالحجر أو نحو ذلك.

ومن جانب آخر فلم ينقل إلينا حكم بالتعويض المالي بسبب تأخر المدين منذ عصر الخلافة الراشدة إلى نهاية الحكم العثماني، حيث لم تذكر كتب الفقه والقضاء مثل هذا الحكم حسب علمنا على الرغم من كثرة حالات المماطلة والتأخير، وكثرة الأحكام الصادرة بالتعزير، وبالحبس والحجر، وبيع أموال المدين ونحو ذلك.

سادساً: القياس على ذهاب منفعة أعضاء الإنسان حيث يجب فيها الدية، أو التعويض المقدر بحكم القضاء.

فهذا القياس أيضاً مع الفارق، لأن منفعة العضو متحققة وقد قام المعتدي بإزالتها، فيجب أن يعوض عنها المجني عليه، أما منفعة الدين للدائن فليست متحققة ـ كما سبق ـ فلا يجوز تعويضها، إضافة إلى حساسية الدين بخصوص الخوف من الوقوع في الربا ـ كما سبق.

ومن جانب آخر فإن تعويض منافع عضو الإنسان جاء بتحديد من الشرع في الدية، وبنصوص دالة عليه في غيرها، أما تعويض الدائن بسبب تأخر دينه فجاء بسبب شرط في العقد.

 وبهذا الغرض تبين لنا أن أدلة الشـــيخ لم تســـلم من نـقـد، ولم تصــمد أمام المناقشـــة.