الشخصية الاعتبارية


وأحكامها في الدولة المعاصرة ، وأثرها في تحقق شرط الملك التام


 


ـ دراسة فقهية مقارنة بالقانون  ـ


  


    


  


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد الهادي الأمين ، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله المطهرين وصحبه الطيبين  ، ومن تبع هداهم  إلى يوم الدين


وبعد


 


   فإن المستجدات وبخاصة في عالم الاقتصاد لا تنتهي ، فعالمنا اليوم يعج بالنوازل ، وتتجدد فيه الحوادث التي لا تنتهي ، لذلك تقع على الفقهاء مسؤولية كبيرة من حيث بيان أحكام هذه المستجدات مع أدلتها وعللها وتوضيحها حتى يكون الناس على بينة من الأمر .


  ومن هذه المستجدات : الشخصية الاعتبارية ( أو القانونية ، او المعنوية ) التي ظهرت في العصور الأخيرة ، ولكن تطبيقاتها تتجدد في مسائل كثيرة منها مسائل الزكاة ، فهل تبنى عليها أحكام خاصة ؟ وهل تجب الزكاة على الشخصية الاعتبارية للشركة ؟ أم أنها تجب على أموال الشركاء ؟ وما هي الالتزامات المترتبة على الشركاء في حالة افلاس الشركة ومنها الزكاة ؟


  هذه المسائل وغيرها نبحثها في هذا البحث ـ بإذن الله تعالى ـ بعد أن نمهد لها بمقدمات ممهدات تتحدث عن مفهوم وطبيعة الشخصية الاعتبارية في الفقه والقانون ، ومميزاتها وصفاتها ، وأحكامها وأهليتها ، ونحو ذلك .


    والله أسأل أن يوفقنا جميعاً فيما نصبو إليه ، وأن يكتب لنا التوفيق في شؤوننا كلها ، والعصمة من الخطأ والخطيئة في عقيدتنا ، والاخلاص في أقوالنا وأفعالنا ، والقبول بفضله ومنّه لبضاعتنا المزجاة ، والعفو عن تقصيرنا ، والمغفرة لزلاتنا ،  إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .


 


 


التعريف بالشخصية الاعتبارية ( وتسمى القانونية والمعنوية ) :


   وهي : إعطاء صفة الأهلية القانوينة ـ ما عدا ما يخص الجانب الانساني ـ للشركة ( أو نحوها ) ، واعتبار ذمتها مستقلة ومنفصلة عن أهلية الشركاء ( المساهمين ) بحيث تكون للشركة ذمة مالية خاصة بها[1] .


  وقد نصت المادة (53) من القانون المدني المصري على أنه :




  1. يتمتع الشخص الاعتباري بجميع الحقوق الا ما كان منها ملازماً لصفة الانسان الطبيعية ، وذلك في الحدود التي قررها القانون .



  2. فيكون له : (أ) ذمة مالية مستقلة (ب) أهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه ، أو التي يقررها القانون (ج) حق التقاضي (د) موطن مستقل ، ويعتبر موطنه المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته ، والشركات التي مركزها الرئيسي في الخارج ، ولها نشاط في مصر يعتبر مركز إدارتها ، بالنسبة إلى القانون الداخلي ، المكان الذي توجد فيه الادارة المحلية .



  3. ويكون له نائب يعبر عن ارادته  .


 فالشركة إذن تعتبر شخصاً مستقلاً عن الشركاء ، وكذلك الجمعيات ، والمؤسسات تعتبر شخصيات مستقلة عن أعضائها .


 وعلى ضوء ذلك أصبح هناك شخصية قانونية إلى جانب الشخصية الطبيعية للانسان[2] .


 وقد اختلف القانونيون في طبيعة الشخصية الاعتبارية : هل هي حقيقة واقعة أم افتراض ومجاز ؟ ولا يسع المجال للخوض فيها  ، ولكن الذي لا خلاف فيه هو أنه حقيقة قانونية فرضتها ضرورات الحياة الاقتصادية والاجتماعية[3] .  


 


 


عناصر الشخصية الاعتبارية :


والشخصية المعنوية تحتاج إلى عنصرين هما :


1ـ عنصر موضوعي ، وهو وجود جماعة من الاشخاص ، أو مجموعة من الأموال ترصد لتحقيق غرض محدد .


2ـ عنصر شكلي ، وهو اعتراف الدولة لتلك المجموعة بالشخصية المعنوية إما اعترافاً عاماً عندما تكتسب بقوة القانون ، أو خاصاً بكل شركة أو مؤسسة . 


  وقد نصت المادة (506) من التقنين المدني المصري على ما يأتي : ( 1ـ تعتبر الشركة بمجرد تكوينها شخصاً اعتبارياً ، ولكن لا يحتج بهذه الشخصية على الغير الا بعد استيفاء اجراءات النشر التي يقررها القانون .


2ـ ومع ذلك للغير إذا لم تقم الشركة باجراءات النشرالمقررة أن يتمسك بشخصيتها .


  ويوجد مثل هذا النص في معظم القوانين العربية الاخرى ، مثل المادة (474) من القانون المدني السوري ، والمادة (627) من القانون المدني العراقي ، وكذلك الحال في القوانين الخليجية[4] مثل المادة (514) من القانون المدني القطري ، ونصت المادة الثامنة من القانون التجاري العراقي على أنه : ( فيما عدا شركة المحاصة ، لا تكون للشركة شخصية اعتبارية الا بعد شهرها وفقاً لاحكام هذا القانون ، ويكون مديرو الشركة أو أعضاء مجلس ادارتها بحسب الأحوال مسؤولين بالتضامن عن الاضرار التي تصيب الغير من جراء عدم شهر الشركة ) .


 


 


بدء الشخصية المعنوية :


  تبدأ  الشخصية المعنوية للشركات المدنية والتجارية ( عدا شركة المحاصة التي ليست لها شخصية معنوية ) بعد الاجراءات القانونية التي يتطلبها القانون من موافقة الدولة ، وشهر الشركة واجراءات التسجيل ونحوها[5] .


  وتظل هذه الشخصية قائمة ما دامت الشركة قائمة ، ولذلك تنتهي بانقضاء الشركة ، أو بحلها سواء أكان لسبب خاص ، أو لسبب عام[6] .


 


ويترتب على الاعتراف للشركة بالشخصية المعنوية نتائج مهمه منها :


( أ ) ذمة الشركة :


حيث تصبح لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء، ويترتب على ذلك آثار كبيرة ، منها :


1.  أن ذمة الشركة هي الضمان العام لدائني الشركة دون دائني الشركاء كما أن ذمم الشركاء هي الضمان العام لدائنيهم الشخصيين إلاّ في شركة التضامن فإن ذممهم فيها ضامنة لديون الشركة جميعها .


2.    أن حصة الشريك تنقل إلى ذمة الشركة بمجرد أن يقدم الشريك حصته في رأس مال الشركة .


2. أنه لا يجوز التمسك بالمقاصة بين ديون الشركة وديون الشركاء كما أن افلاس الشركة أو الشركاء لا يستلزم منه افلاس الآخر[7] .


 


( ب ) الاسم ، والعنوان التجاري :  


  حيث لا بدّ أن يكون للشركة اسم حسب قواعد وضوابط حددتها القوانين ، وبالنسبة للشركات التجارية لا بدّ أن يكون لها عنوان تجاري .


 


( ج ) الموطن والجنسية :


  حيث تتحقق للشركة أهلية قانونية من حيث الحقوق والالتزامات في الحدود التي يعينها سند إنشائها ، أوالتي يقررها القانون ، ولكن مسؤوليتها كقاعدة عامة هي مسؤولية مدنية إذ لا يمكن معاقبتها جنائياً إذا ارتكبت ما يوجب ذلك .


 


( د ) أهلية الشركة :


 تتمتع الشركة عند اكتسابها الشخصية المعنوية بأهلية الاداء الكاملة للتصرف في الحدود التي حددها سند انشائها ، وهو عقد الشركة ونظامها الاساسي ، فلها حق التملك والتقاضي ، والتصرفات القانونية باسمها ، وكذلك تتربت عليها المسؤولية المدنية الناتجة عن العقد ، أو عن تقصير أحد موظفيها ، أو القائمين على إدارتها إذا كان التقصير يخص الشركة ، كما تسأل عن الاضرار التي تسببها منتجاتها ، أو أدواتها ، وكذلك يمكن مساءلة الشركة جزائياً ، ولكن لا تطبق عليها العقوبات البدنية[8] .


( هـ ) ممثل الشخصية المعنوية للشركة لا بد أن يكون شخصاً طبيعياً يدير أعمالها وشؤونها وهو المدير ، أو مجلس الادارة[9] .


  والشخصية المعنوية كانت مثار خلاف بين المعاصرين المهتمين بالفقه الاسلامي ولكنه استقر الأمر بينهم الآن على الاعتراف بها على أنها إجراء قائم على التراضي وعلى أن الفقه الاسلامي وإن لم يكن يعرف هذا المصطلح لكنه عالج آثاره بشكل يكاد يقر بنوع من استقلالية الذمة لبعض المؤسسات والجهات كالوقف وبيت المال ، كما أن الشركات تقوم على الوكالة من الطرفين ، وأن المالين بمثابة مال واحد[10] .


 


 


الأشخاص الاعتبارية تشمل ما يأتي :


1-   الدولة ، والمؤسسات العامة والوزارات ، وغيرها من المنشآت والاداريات التي يمنحها القانون الشخصية الاعتبارية .


2-      المحافظات والبلديات التي يمحنها القانون شخصية اعتبارية بالشروط التي يحددها .


3-      الهيئات والطوائف الدينية التي تعترف بها الدولة لشخصيتها الاعتبارية .


4-   الأوقاف ، وهذه الشخصية الاعتبارية لم يصل إليها القانون إلاّ في القرون الأخيرة في حين سبقه فقهنا الإسلامي الوضعي في الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للوقف ، حيث نظر الفقه الإسلامي إلى من يدير الوقف نظرة خاصة فرّق فيها بين شخصيته الطبيعية ، وشخصيته الاعتبارية كناظر للوقف ، أو مدير له ، وترتب على ذلك أن الوقف ينظر إليه كمؤسسة مستقلة عن أشخاصها الواقفين والناظرين ، لها ذمة مالية تـترتب عليها الحقوق والالتـزامات فقد قرر جماعة من الفقهاء منهم الشافعية[11] والحنابلة[12] جواز انتقال الملك إلى جهة الوقف مثل الجهات العامة كالفقراء والعلماء ، والمدارس والمساجد ، كما ذكر فقهاء الحنفية والشافعية[13] أنه يجوز للقيّم على الوقف أن يستدين على الوقف للمصلحة بإذن القاضي ، ثم يسترده من غلته ، فهذا دليل على أن الوقف له نوع من الذمة المالية التي يستدان عليها ، ثم يسترد منها حين إدراك الغلة ، قال ابن نجيم : ( أجر القيّم ، ثم عزل ، ونصب قيّم آخر ، فقيل : أخذ الأجر للمعزول ، والأصح أنه للمنصوب ، لأن المعزول أجره للوقف لا لنفسه )[14] فهذا يدل على أن الوقف من حيث هو يقبل الإجارة ، حيث اعتبرت الإجارة له ، وهناك نصوص كثيرة تدل على إثبات معظم آثار الشخصية الاعتبارية في القانون الحديث للوقف[15].   


5-      الشركات التجارية ، وكذلك الشركات المدنية سوى شركة المحاصة (على تفصيل).


6-      الجمعيات والمؤسسات المنشأة وفقاً لأحكام القانون .


 


    هذه هي أهم أنواع الشخصية الاعتبارية حسب معظم القوانين العربية والغربية ، وحتى القوانين الملتزمة مثل قانون المعاملات المدينة السوداني لسنة 1984 الملتزم بتطبيق الشريعة ذكر هذه الأنواع في الفصل الرابع ، وكذلك نظام الشركات السعودي[16] .


 


 


التأصيل الفقهي لمسائل البحث :


  هذا الذي سبق يكاد يكون متفقاً عليه بين القوانين العربية والغربية في الوقت الحاضر ، في حين لم تكن الشخصية الاعتبارية محل اتفاق للشركات المدنية مثلاً ، حيث كان الخلاف كبيراً بين فقهاء القانون الفرنسي ، ولذلك لم يتطرق القانون المصري القديم إليها حتى حسمها القضاء في عدة أحكام فقضى في عام 1891م ، 1892 ، 1894م ، 1898م [17] ، وقد اعترف بها القانون المصري الجديد في مادته 506 حيث نصت صراحة على أن : ( تعتبر الشركة بمجرد تكوينها شخصاً اعتبارياً ) .


  وقد اتفقت القوانين والأنظمة في دول مجلس التعاون الخليجي على الاعتراف بالشخصية المعنوية لجميع الشركات المعترف بها قانوناً ما عدا شركة المحاصة[18] .