بقلم: ا.د. علي القره داغي
فكرت كثيراً في أسباب الانتصارات العظيمة التي تحققت في شهر رمضان المبارك بدءاً بغزوة بدر الكبرى، مروراً بفتح مكة المكرمة وانتصار طارق بن زياد في الأندلس، ومعركة عين جالوت ضد المغول والتتر إلى معركة العاشر من رمضان وتحطيم خط بارليف أمام صيحات الله أكبر، حتى إن عدد الانتصارات في هذا الشهر زادت على 185 انتصاراً وفتحاً غيرت مجرى التاريخ.
وتدبرت في الربط بين هذه الانتصارات وبين الشهر الفضيل فوصلت إلى الآتي:
أولاً: رمضان هو شهر الصبر، والنصر دائماً مع الصبر، والإعداد الجيد، والتخطيط الهادف، وليس مع التعجل والتسرع اللذين يضيعان كل شيء على مستوى الأفراد، والشعوب والأمم، فلم يعرف النصر من استعجل الشيء قبل أوانه، بل عوقب بحرمانه، ولم يعرف النصر من استجاب للإثارة، وسُحبت رجله إلى ساحة الوغى قبل أن يستكمل جوانب الإعداد، بل نالته شر الهزائم.
ولم يعرف النصر من لم يخلص النية، ولم يتبع سنن الله – تعالى – في النصر، بل اعتمد على الإثارة والشهرة والدعاية والتضحيم، بل انكشف أمره في ساحة القتال فلم ينفعه كل ذلك، وأصابته مصائب الفشل الذريع وآثاره الخطيرة.
من هنا فإن شهر الصبر له علاقة بالنصر، ولذلك ربط الله – تعالى – بينه وبين نصر الله ونزول ملائكته فقال – تعالى -: “بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى”لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم” (126) (آل عمران)، حيث إن الصوم صبر على شهوتي البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل والشرب والمعاشرة الجنسية طوال نهار شهر كامل، مع الامتناع عن المحرمات (من الكذب والغيبة والسب وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من جميع المحرمات) بل الصبر حسبما يريده الإسلام يفرض على الصائم ألا يرد على من سبه، أو شتمه أو قاتله: “وإن امرؤ قاتله أو سابه أو شتمه فليقل إني صائم، إني صائم، إني صائم”.
وبهذا الامتناع الإيجابي يروض الصوم الصائم خلال شهر كامل على الصبر والتحمل، كما يروضه على التحدي لشهواته وملذاته، فتصبح إرادته قوية بالله – تعالى -، غير خاضعة لأهوائه، ولا أهواء أحد، وهذا هو الارتباط الثاني، وذلك لأن المعارك لا تحسم في ساحة القتال فقط، بل تحسم في ساحة الصدور، وميدان النفس، فالنفوس المنهزمة داخلياً هي التي تنهزم في ساحة القتال، بل قد لا تجرؤ على الدخول في الساحة أصلاً، وتضحي بكل شيء في سبيل أهوائها وشهواتها ومصالحها.
ثانياً: الصبر يعلم الأمة التضحية بالشهوات في سبيل رضاء الله – تعالى -، ويعودها تجويع أنفسها في سبيل كرامتها، ومن هنا تسقط أمامها أكبر التحديات المتمثلة في التحدي الاقتصادي، فقد قال رئيس إحدى الدول العربية في معرض رده على عدم التحرك العربي أمام كل ما تفعله إسرائيل ووراءها أمريكا، قال:”كيف أحارب أمريكا و70% من الغذاء والحبوب يأتي من أمريكا؟!”.
هنا يتدخل الصوم فينادي: لا وألف لا، فلن نخضع لشهوات البطن ونضيع كرامتنا وحقوقنا، فأنا أروض المسلم على أن يصوم ثلاثين يوماً، أي يوفر 50% من الغذاء بل أكثر من ذلك لو التزمت الأمة بمنهج الإسلام في الإنفاق (دون إسراف ولا تبذير).
ولكن مع الأسف، ضاع هذا الهدف النبيل في خضم تباهي المسلمين بالأكلات والمشروبات في شهر رمضان الفضيل، حيث يصرف الفرد على الغذاء ونحوه في هذا الشهر أضعاف ما يصرفه في بقية الشهور!.
الطريق إلى النصر
الآيات التي تحدثت عن الصوم حملت في طياتها برنامجاً كاملاً ومنهجاً متكاملاً للتربية الصحيحة للوصول بالأمة إلى النصر المبين، وهو ما يأتي:
أولاً: الإصلاح الداخلي:
ركزت آيات الصوم على إصلاح الإنسان من داخله، إصلاح نفسه، وقلبه وروحه من خلال ما يأتي:
أ- بيان أن المقصد الأساسي من الصوم هو”التقوى”فقال – تعالى -: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” 183 (البقرة)، والتقوى محلها الصدر والنفس، كما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – “التقوى ههنا، التقوى ههنا”، وأشار إلى صدره المبارك – صلى الله عليه وسلم – .
فالتقوى هي استشعار رقابة الله على الإنسان في السر والعلن وفي جميع التصرفات والحركات والسكنات، وذلك هو الإحسان الذي هو قمة الدين، كما ورد في حديث جبريل الصحيح المتفق عليه:”الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك”، وهو أن يصل الإنسان إلى إحدى المرحلتين الآتيتين، وهما:
1 مرحة القرب من الله – تعالى – (كأنك تراه) وحينئذ لا يجرؤ المسلم أن يقترب من أي ذنب، لأنه يستحي من الله حق الحياء، هذه هي مرتبة الأنبياء والصالحين، كما كان جواب يوسف – عليه السلام -، حينما قالت المرأة: هيت لك قال: “معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون” 23(يوسف).
2 مرحلة الإيمان الجازم واليقين الراسخ بأن الله – تعالى – يرى الإنسان في جميع أحواله وتصرفاته وحركاته وسكناته، وحينئذ يستحي من الله – تعالى – أيضاً، فيمتنع عن المعاصي والذنوب، ومن المعلوم أن نصر الله لا يهدى لعاصٍ، بل لم ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم – في البداية يوم حنين بسب إعجاب بعض صحابته كما سجل القرآن ذلك ليكون عبرة لأولي الألباب فقال: “ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين” 25 (التوبة).
ب بيان أن هناك هدفاً آخر من الصيام هو الوصول إلى عبادة الله وحده، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وفي تكبيره وشكره وتعظيمه فقال – تعالى -: “ولتكبروا الله على”ما هداكم ولعلكم تشكرون” 185 (البقرة)، والإكثار من الدعاء من خلال القرب من الله – تعالى -، والاستجابة له: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” 186 (البقرة). وهذا يعني أن الصوم الحقيقي يصل بالصائم إلى مرحلة عظيمة من الارتقاء الإيجابي حتى يكون تعظيمه لله وحده وليس لغيره، ولا يكون تعظيمه لبشر ولا لدولة ولا لسلطان، مهما كان، ويكون شكره لله – تعالى -، لا لغيره. ومشكلة المسلمين اليوم في هذا الجانب أن نفوس معظمهم منهزمة في الداخل، وجلة من الأعداء، خائفة على مصالحها الذاتية، ولذلك تعظم هؤلاء الأعداء وتخاف منهم. وبالتالي لم تحقق العبودية الكاملة التي يريدها الله – تعالى – من عباده، بأن يكون سجودهم وركوعهم وخضوعهم له وحده، دون شرك ولا رياء ولا نفاق.
وكذلك تبين هذه الآيات أن هدف الصيام.. الوصول بالإنسان إلى مرحلة الرشد لعلهم يرشدون وذلك من خلال ترويضهم على التعبد لله – تعالى – فقط، وليس للأهواء أو الشهوات والرغبات والعواطف.
ثانياً: منهج التغيير الداخلي:
يترتب على الإصلاح الداخلي الذي أراده الله – تعالى – من الصوم من خلال ترويض الصائم على الصبر، وعلى التقوى، والتكبير، والشكر لله وحده التغيير النفسي المطلوب في قوله – تعالى -: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى”يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد:11).
فهذه السنة الإلهية قاضية بأن تغيير الأمة نحو الأحسن مرتبط بتغيير الأنفس تغييراً جذرياً من التردد إلى الإيمان الجازم، ومن الشرك والأوهام والخرافات إلى توحيد الله الخالص في ربوبيته، وألوهيته، ومن هزيمة الأنفس إلى عزيمتها وقوتها وإرادتها الصلبة المعتمدة على الله – تعالى -، ومن تعظيم غير الله إلى تعظيم الله وحده. فمنهج التغيير في الإسلام منهج شامل لتغيير الإنسان: فكره، وتصوراته، وإرادته وسلوكه.
ثالثاً: منهج التعامل:
تشكل آيات الصيام منهجاً متكاملاً في كيفية التعامل مع الدين وشعائره، ومع الخالق ومع المخلوقين جميعاً، وهو منهج رائع عظيم متوازن وسط، كما يتبين ذلك مما يلي:
1- التعامل مع الشعائر التعبدية بيسر وسهولة وبساطة، دون تشدد ولا تعقيد، على عكس ما كان متصوراً في السابق، من وجوب التعامل مع العبادات بشدة وقوة، حيث تضمنت هذه الآيات مجموعة من الرخص للصائم تبيح له الإفطار، كالمرض والسفر أو عدم الطاقة بسبب السن أو غيره، بل إن بعض الأعذار يسقط الصيام تماماً، فلا يجب قضاؤه، بل يوجب الفدية فقط “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” (البقرة 184)، ولا يكتفي الإسلام بهذه التخفيفات، بل يجعل منها قاعدة عامة، ومبدأ سارياً، وهو مبدأ رفع الحرج، وقاعدة التيسير فقال – تعالى -: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (البقرة: 185).
يفهم من ذلك بوضوح أن الإصلاح يأتي مع التيسير، وليس مع التشدد والتعسير، وأن الدين لا يقود الناس بالإكراه والقيود والسلاسل، بل بالحرية والدافع الذاتي والتقوى الداخلية. ولذلك شدد الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أولئك الذين لم يفطروا في السفر، عام فتح مكة، فوصفهم بالعصاة، لأنهم اتجهوا إلى منهج التشدد والغلو، والتنطع في الدين، الذي رفضه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ، فقد روى مسلم وغيره عن جابر – رضي الله عنه – قال: خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عام فتح مكة في رمضان، فقام حتى بلغ كراع الغميم، ثم عاد بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال – صلى الله عليه وسلم – :”أولئك العصاة”.
إن العبادات في الإسلام تعتمد على تربية الضمير وتصفية النفس، وتهذيب الروح، ولذلك تنشئ حالة نفسية ذاتية تدفع صاحبها ذاتياً نحو حسن الأداء وحسن السلوك في الحياة، ولا يمكن أن تعتمد على المظاهر، بل لا يمكن للمظاهر أن يكون لها هذا الدور العظيم في إصلاح القلوب، وتغيير الإنسان نحو الأحسن.
2- التعبد في الإسلام لا يعني الترهب، والإسلام يدعو إلى الربانية لا الرهبانية: “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا” (القصص: 77)، وإلى الجمع بين سعادتي الدنيا والآخرة وحسنتيهما: “ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار” 201 (البقرة:201).
ولذا جاءت إباحة المعاشرة الزوجية في ليالي الصيام فقال – تعالى -: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى”نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقو”ن 187 (البقرة).
فهذا هو الإسلام، دين الوسطية، يعطي كل ذي حق حقه، وذلك هو الإسلام، الذي يراعي الاعتدال والتوازن في كل شيء، بلا إفراط ولا تفريط.
3- التعامل مع جميع النصوص الشرعية على سبيل التعبد لله، وليس على سبيل الانتقاء، لذلك بينت هذه الآيات أن الأخذ بيسر هذا الدين ورخَصه، من تعاليم الدين نفسه، كما أن الأخذ بعزائمه من تعاليمه كذلك.
4- أن يتعود المسلمون على تحمل بعضهم بعضاً، فيسع من يأخذ بالعزيمة أخاه الذي يأخذ بالرخصة، لذلك لا يجوز لمن يأخذ بالعزائم أن يعيب على أخيه الذي يأخذ بالرخص، بل إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عاب على هؤلاء الذين تشددوا فلم يفطروا بسبب السفر والجهاد الذي يحتاج إلى القوة البدنية، علاوة على القوة الإيمانية بالطبع، وهذا ما كان عليه الصحابة الكرام، – رضي الله عنهم -، فقد ترجم البخاري باب: لم يعب أصحاب النبي ص بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار، ثم روى بسنده عن أنس – رضي الله عنه -، قال:”كنا نسافر مع النبي ص فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم” (صحيح البخاري، مع الفتح 4-186).
وما أحوجنا اليوم إلى هذا الأدب الجم في تعامل المسلمين مع بعضهم البعض، وفي أن يسع بعضهم بعضاً، وألا يهاجم بعضهم بعضاً بسبب أمر مختلف فيه، وأن يعود التآلف إليهم جميعاً للوصول إلى وحدة الأمة التي تمزقت بسبب البعد عن منهج الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام.