الدوحة – جريدة العرب

 

أكد د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أهمية ترك الشعوب لاختيار مصيرها بحرية، ناصحا الحكام بتقوى الله في شعوبهم، محذرا في الوقت نفسه من أن تجاهل هذه الحقيقة سوف يكون مآلها الفوضى.

وأشار في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بجامع عائشة بنت أبي بكر بفريق كليب إلى أن الغضبة الشعبية في عالمنا الإسلامي لم تأت اعتباطا، وإنما هي نتيجة فترات طويلة من الظلم والاضطهاد، وانعدام العدل وانتشار الفساد.

وواصل في خطبته الأولى حديثه عن صفات عباد الرحمن فقال:

إن صفات عباد الرحمن تشتمل على كل ما هو طيب في الحياة الدنيا، سواء ما تعلق بالصفات السلوكية الفعلية، أو القولية، أو ما تعلق بالعبادات والمنهج الوسط، والإعراض عن اللغو، واجتناب الزور، وغير ذلك مما ذكرناه في الخطب السابقة، واليوم بقي لنا صفتان أساسيتان من الصفات التي ذكرها سبحانه وتعالى واصفا عباد الرحمن وهما:

إن عباد الرحمن ليسوا مقطوعي الصلة بالأجيال اللاحقة، وإنما هم يسعون لتنشئة جيل من بعدهم مؤمن بالله سبحانه وتعالى، لتتواصل مسيرة الخير، ومن هنا يسعى عباد الرحمن، كل حسب قدراته، أن ينشئ جيلا صالحا، وذلك من خلال سعي الوالدان بتربية أولادهم تربية حسنة، تؤهلهم لأن يكونوا هم كذلك ممن يتصف بصفات عباد الرحمن، وبذلك تقر أعينهما بهم، وهذا يدل كذلك أن الذي يدخل ضمن عباد الرحمن لا يكتفي بتربية نفسه فقط، وإنما يعمل على تربية غيره، وفي مقدمتهم أبناؤه ذكورا وإناثا، حتى يكون هؤلاء الأولاد قرة عين له «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ»، والدعاء في القرآن دائما هو إيحاءات إلى العمل، والدعاء دائما يحمل أمرين أساسيين، الأمر الأول وهو الدعاء الذي يستجيب الله له، والأمر الثاني هو العمل بمقتضى هذا الدعاء، فحينما تقول على سبيل المثال: «رب اغفر لي»، فعليك أن تقوم بالمقابل بالأعمال التي من شأنها أن تقود إلى مغفرة الله، وبهذا المعنى يكون معنى هذا الجزء من الآية هو أن ندعو الله بقلوب صادقة، ونخلص في الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى على أن يرزقنا الذرية الصالحة، وأن تكون هذه الذرية قرة عين للوالدين وللمجتمع والأمة، ثم ومع هذا الدعاء والإخلاص فيه لله تعمل بكل ما تستطيع لإنشاء هذا الجيل الصالح.

أهداف استراتيجية

وقال فضيلته إن الصفة الثانية لعباد الرحمن هي أنهم لا يكتفون بالعمل البسيط إنما أهدافهم عالية وأهدافهم كما يقال استراتيجية، وأن يكون كل واحد منهم إماما للمتقين، قدوة للمتقين، وليس قدوة للأشخاص العاديين، وهو هدف عظيم وغاية عظمى، ليس من الهين أن يلقاها سوى من اتصف بصفات عباد الرحمن «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» ولم يقل رب العزة واجعلنا للمتقين أئمة، رغم أن الفعل واجعلنا هو للجمع، وهذا يعني حسب علماء اللغة بأن كل عبد من عباد الرحمن يسعى لأن يكون إماما مطلقا للأمة جميعا، وهذا يؤكده قوله سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين الصادقين: «أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ»، كأنهم هم يسبقون هذه الخيرات يصبحون قدوة

للخير نفسه «أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا» والغرفة هي الجنة، وهذا هو جزاء هؤلاء عباد الرحمن الذين أحصينا صفاتهم في الخطب السابقة واليوم، ما يعادل 12 صفة، ثم لا يكتفي لهم بالجنة، ولكن يضاف إليهم «وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً».

فقدان القدوة

وعلق د. القره داغي في خطبته الثانية على الأحداث التي تجري في عدد من الدول العربية والإسلامية فقال: لقد ولى عهد الظلم والاستبداد لهذه الشعوب، بسبب عدم التزام معظم الأمة، وبخاصة الأئمة الذين يفترض أن يكونوا قدوة لشعوبهم في العدل والإصلاح والحب، فبسبب فقدان هذه القدوة يعيش عالمنا الإسلامي ما نشاهده يوميا على شاشات التلفاز من مظاهرات وتحركات، وما يصاحبها من ردود فعل من قتل وتعذيب واعتقال، فهذه الأمور وهذه الغضبة الشعبية في عالمنا الإسلامي لم تأت هكذا اعتباطا، وليست نتيجة ليوم أو يومين ولا سنة أو سنتين، وإنما هي نتيجة فترات طويلة من الظلم والاضطهاد، وانعدام العدل، وانتشار الفساد في هذه الطبقات، التي من المفترض أن تكون قدوة لغيرها.. فحول هؤلاء الحكام بلدانهم، وكأنها مزارع خاصة لهم ولأولادهم وعائلاتهم، كما أنهم يعملون جاهدين لتوريثها لأبنائهم.

وتابع قائلا: بعد أن تحولت معظم الدول الإسلامية من حقبة الملكية كانت تضمن بأنها ستعيش مرحلة جديدة ستكون أقل تسلطا، وستتداول الأشخاص فيما سمي بالجمهوريات، بعد أن انقلبت على الملوكيات، فإذا بها تتحول هذه الجمهوريات إلى دكتاتوريات أشد تسلطا وظلما من الملوكية، ولكن يخطئ من كان يظن أن الشعوب لم تكن تعلم وتترقب اللحظة التاريخية التي ستنتفض على هذه الأوضاع المنغلقة لتتحرر من هذه الأنظمة المستبدة، وتكسر القيد، معلنة أنها قد صبرت وأمهلت هذه الأنظمة سنوات وعقودا طويلة، ولكنها لم تفهم، بل فهمت صمتها ضعفا واستكانة، فبدأت هذه الشعوب، وبعد أن دب فيها اليأس واستفحل الفساد في هذه النخب الحاكمة، واستغنت على حسابها، تتحرك وخاصة فئة الشباب، الذي التجأ البعض منهم إلى المغامرة بالارتماء في قوارب بالية في البحر أملا منهم بأن يصلوا إلى جنة الغرب أوروبا، فمات الكثير منهم، ثم بعد أن أغلقت هذه الأبواب لجأ البعض منهم إلى حرق أنفسهم، وبالرغم من أن هذا الحرق شرعيا غير جائز، ولكن لم يجدوا أمام اليأس وفقدان الأمل إلا اللجوء إليه.

نصيحتي للحكام

ورأى فضيلته أنه من الطبيعي جدا أن تثور هذه الشعوب على هذه الأوضاع، بعد أن ضن هؤلاء الحكام أنهم لن يثوروا.. فلذلك نصيحتنا لهؤلاء الحكام أن يتقوا الله في شعوبهم، وأن يتركوا هذه الشعوب تعيش بحرية وتختار مصيرها بإرادتها وبحرية، وإلا فالوضع سيؤول لا قدر الله إلى الفوضى والاقتتال، فنحن قلقون جدا لما يحدث من تظاهرات، خاصة هذه الأيام في مصر، وإذا كان في هؤلاء الحكام ذرة واحدة في حب شعوبهم فليتركوا، وليفسحوا المجال للتغيير، وترك هذه الشعوب تقرر مصيرها، ولا يدفعوا الأوضاع إلى مزيد من التوتر والقتل، مما سيزيد في تعقيد الأوضاع، وخاصة في مصر الحبيبة، فحجم مصر كبير في الأمة، وليس مثل تونس، فنسأل الله أن يفهم هؤلاء، ولا ينساقوا إلى مزيد من استعمال العنف والقوة، فليتركوا هذه الشعوب فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، لا إمساك بظلم وتسريح بفوضى ودماء وقتل.