التعريف بالفلاح  :


   الفلاح لغة : مصدر فَلَحَ بمعنى ظفر بما يريد ، ويقال أفلح : ظفر بما يريد ، وفاز بنعيم الآخرة ، وفي التنزيل : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ )  والفلاح : الفوز ، بسعادة الدنيا ، وسعادة الآخر ، وبكلتيهما ، والفلاحة بكسر الفاء : القيام بشؤون الأرض الزراعية من حرث وزرع وريّ ونحو ذلك   .


والفلاح في الاصطلاح الاسلامي هو : السعادة والفوز في الحياة في الدنيا والآخرة ، فهو مفهوم متعدد الجوانب والأبعاد ، وشامل لجميع مناحي الحياة ….. ، كما سيتضح ذلك من خلال نصوص القرآن والسنة .


 وقد تكرر لفظ ( أفلح ) في القرآن الكريم ماضياً ومضارعاً ، واسم فاعل أربعين مرة ، قال الماوردي في تفسير قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ )   فيه ثلاثة أوجه :


أحدها : معناه : قد سعد المؤمنون ، والثاني : أن الفلاح البقاء ، ومعناه قد بقيت لهم أعمالهم ، وقيل : انه بقاؤهم في الجنة ، والثالث :  أنه ادراك المطالب ، قال ابن عباس : المفلحون الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شرّ ما منه هربوا …)  .


  وقال الراغب الأصفهاني : ( الفلاح ضربان : دنيوي ، وأخروي ، فالدنيوي : الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا ، وهو البقاء والغنى والعز… وفلاح أخروي ، وذلك أشياء : بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وعلم بلا جهل ، ولذلك قيل : ( لا عيش إلاّ عيش الآخرة ) وقال تعالى : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ )  … وقولهم : حيّ على الفلاح ، أي على الظفر الذي جعله الله لنا بالصلاة )  . 


  وتكرر بلفظ ( أفلح ) أربع مرات وهي ـ ما عدا الآية السابقة ـ قال تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)   وقوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)  وقوله تعالى : ( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى )   .


  حيث استعمل في ثلاث آيات بمعنى السعادة في الدنيا والآخرة ، أو السعادة في الآخرة فقط ، وفي المرة الأخيرة استعلمها ملأ فرعون لسحرة فرعون حيث قالوا لهم : ( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى)  فالفلاح هنا الظفر الدنيوي فقط .


  وورد لفظ ( تفلحوا ) بمعنى السعادة في الدنيا والاخرة حيث قال الفتية المسلمة : ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)  أي لن تظفروا في الدنيا حيث يقتلوكم ، ولن تظفروا في الآخرة إذا عدتم إلى دينهم .


  ولفظ ( تفلحون ) احدى عشرة مرة أريد به الظفر والسعادة في الدنيا والآخرة ، حيث ذكر مع تقوى الله ، ورتب الفلاح عليها في أربع آيات مثل قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )  ورتّب الفلاح مرة واحدة على العبادة وفعل الخير فقال تعالى : ( وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  وعلى ذكر الله ، وآلائه ثلاث مرات فقال تعالى : ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )  وقال تعالى :   ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )  وقال تعالى : ( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  وعلى التوبة مرة واحدة فقال تعالى: ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .


  واستعمل القرآن الكريم عدم الفلاح للظالمين أربع مرات فقال فيها بعد حوادث وأحكام : ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )  ، فمثلاً جاء هذا التعقيب بعد الافتراء على الله ، وتكذيب آياته في الآية 21 من سورة الأنعام ، وبعد تكذيب الرسل وأن عاقبة الدار لا تكون للظالمين في الآية 135 من سورة الأنعام أيضاً ، وتكرر مثل ذلك في الآية 27 من سورة القصص ، وبعد واجب شكر النعم والوفاء وعدم الخيانة في الآية 23 من سورة يوسف .


  واستعمله مع المجرمين مرة واحدة فقال تعالى : ( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)  ومع الساحر أيضاً مرتين فقال تعالى : ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى )  وقال تعالى : ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ )   ومع الكافرين مرتين فقال تعالى:( لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) وكذلك في الآية 82 من سورة القصص .


 وأثبت عدم الفلاح للمفترين على الله مرتين فقال تعالى : ( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ )  وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ )  .


 في حين أثبت القرآن الكريم الفلاح بصيغة ( المفلحون ) لمن يأتي :


1.لمن ثقلت موازينه ، مرتين في الآية 8 من سورة الأعراف،والآية 102 من سورة المؤمنون .


2.لمن يوق شحّ نفسه ، مرتين الآية 9 من سورة الحشر ، والاية 16 من سورة التغابن .


3.لمن آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلام واتى الزكاة ، مرتين في الآية 5 من سورة البقرة ، والآية 5 من سورة لقمان .  


4.لمن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، في الآية 104من سورة آل عمران


5.لمن يتبع النور الذي انزل مع الرسول ، في الآية 157 من اسورة الأعراف


6.لمن يقول : سمعنا وأطعنا ، في الآية 51 من سورة النور


7.لمن يريد وجه الله ، في الآية 28 من سورة الروم


8.لمن هو من حزب الله ، في الآية 22 من سورة المجادلة


9.لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ، في الآية 67 من سورة القصص


10. لمن انتشر في الأرض لأجل اكتساب الرزق ، في الآية 10 من سورة الجمعة وإذا أضفنا إلى هؤلاء الآيات العشر ، الآيات الثلاث ( ما عدا آية 64 من سورة طه ) السابقة التي عبر عنها القرآن الكريم بلفظ ( قد أفلح … )  فتكون أسباب الفلاح في القرآن الكريم ثلاثة عشر سبباً ، وإذا قسمناها حسبما يتعلق بالاقتصاد وغيره ، يكون الآتي :




  • ما يتعلق بالاقتصاد ، هو أن جميع الآيات التي تنص على عدم فلاح الظالمين تدخل أيضاً في مجال الاقتصاد ، حيث إن الظلم المالي والاقتصادي من أكبر المظالم سواء ما كان يتعلق بالمال ، أم أسباب كسبه ، أم بعبارة اقتصادية سواء ما يتعلق بالظلم في الإنتاج أو التبادل ، أو التوزيع ، أو الاستهلاك .



  • ومع ذلك فإن بعض الآيات الخاصة بالفلاح تتناول الجوانب الاقتصادية ،وهي قوله تعالى :


أولاً ـ ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ……..  وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)   فالخشوع في الصلاة والحفاظ عليها يؤدي إلى تقوية جانب المراقبة ، والخوف من الله تعالى ، وبالتالي الالتزام بالأخلاق والقيم الإسلامية السامية ولا ينكر دور ذلك في الإنتاج ، والتبادل ، والاستهلاك ، والتوزيع ، فقد حدد القرآن نفسه وظيفة الصلاة ورسالتها في منع الفحشاء والمنكر ، والاضرار والايذاء والاتلاف فقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)  .


  والابتعاد عن اللغو يرتبط بأهم أدوات الإنتاج وهو العمل والإنسان ، حيث ان اللغو أي الباطل ـ كما قاله ابن عباس ـ والكذب ـ كما قاله السدي ـ والمعاصي ـ كما قاله الحسن  ـ وكل ذلك يؤثر في أدوات الإنتاج ، والتبادل،والتوزيع،والاستهلاك سلباً،وأن عدمه يؤثر فيها إيجاباً .


وأما أداء الزكاة فهو من صميم النظام المالي ، حيث يتعلق بإعادة التوزيع والتكافل الاجتماعي .


وأما الامتناع عن الزنا والفواحش فيتعلق بالاقتصاد من عدة جوانب :


أ ـ جانب الأخلاق والقيم ودورها في الاقتصاد ـ كما سبق ـ


ب ـ حماية أهم أدوات الإنتاج ( الإنسان من أمراض الآيدز والزهري ونحوهما مما ثبت علمياً علاقته بهذه الفواحش) .


ج ـ التشجيع على تكوين الأسرة المنتجة بدل الضياع في أحضان الرذيلة .


  وأما رعاية العهود والأمانات فتشمل التبادل من خلال الحفاظ على العقود والاتفاقيات ، كما تشمل أخطر ما يهدد جميع مراحل النشاط الاقتصادي ، وهو الغش والخيانة ، وعدم حفظ الأمانات ، حيث تخسرالشركات والبنوك ، والتأمين مليارات الدولارات بسبب مخاطر الخيانة وعدم الأمانة ، ويكفي لمجرد المثال أن نذكر أن مكتب جرائم التأمين القومي الأمريكي قدر التكلفة الناتجة عن الاحتيال في خسائر الممتلكات الأمريكية في مجال التأمين فقط بعشرين مليار دولار سنوياً  ، وأن معظم حالات الافلاس تتم إما بسبب الاحتيال فتنهار الشركات ، أو يكون الافلاس نفسه للاحتيال ، كما شهدنا كبرى الشركات الأمريكية أعلنت إفلاسها بعد حادث 11 سبتمبر 2001 .


ثانياً ـ قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )  حيث فسره جماعة من المفسرين بزكاة الفطر أو بزكاة الأموال كلها ، وحينئذ دخلت الآية في صميم الاقتصاد ، وأما الآخرون فقد فسروها بتزكية النفس وتطهيرها من أمراض النفوس وحظوظها  ، كما صرح بها قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ……. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)  أي أفلح من زكى الله نفسه بالطاعة وصالح الأعمال ، أو بمعنى : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله  وهذا المعنى أيضاً له علاقة بأهم ادوات الإنتاج وهو الإنسان ـ كما سبق ـ .


ثالثاً ـ قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  وهذه الآية داخلة في صميم الاقتصاد الإسلامي القائم على حرمة الربا مطلقاً ، ووصفه بالأضعاف المضاعفة لبيان واقع الجاهلية أو لبيان ما ينتهي إليه الربا في المجتمعات الربوية وذلك لتوضيح مفاسده ، ولذلك حرمه الله مطلقاً وشاملاً للقليل والكثير في آيات سورة البقرة من أواخر ما نزلت  .


رابعاً ـ قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  فهذه الآية والتي سبقتها في الفقرة السابقة تتحدثان عن القيود الواردة في الملكية في الإنتاج ، والاستهلاك ، والتوزيع ، والتبادل ، فالخمر والميسر والأنصاب محرمات لا يجوز تملكها ، وبالتالي تحدد وسائل الإنتاج ان لا تكون في المحرمات ، وكذلك لا يجوز استهلاكها بالأكل ونحوه من الاستعمالات ، وأما الربا فليس له مقابل في نظر الشرع لأن النقود لا تؤجر ، لأنه لا منفعة في ذاتها .


خامساً ـ قوله تعالى : ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  وهذا من صميم الاقتصاد الإسلامي وهو موضوع الطيبات ( المنافع ) وهي في نظر الإسلام هي الموارد المباحة شرعاً ، ولا يخفى أن جميع الأنشطة الاقتصادية تستهدف تحقيق هذه الطيبات


سادساً ـ قوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  فهذه الآية تتضمن الاستخلاف ، والقوة مطلقاً ، أو القوة البدنية  ، فالقوة الشاملة للقوة العقلية والنفسية والروحية هي الأساس في الإنتاج ، وكذلك القوة البدنية لها دور كبير فيه ، وأما الاستخلاف هنا فهو التمكين من الأرض ومواردها وطاقاتها ففيه جانبان :



أ ـ أهمية نعمة التمكين .


ب ـ التأكيد على أهم خصوصية للاقتصاد الإسلامي القائم على فكرة الاستخلاف ، وهي فكرة تقوم على عقيدة ( أيدلوجية ) خاصة به ، وهي أن الملك الحقيقي ـ بما فيه المال وجميع عناصر الإنتاج ـ لله تعالى ، وأن الإنسان مستخلف فيه ، وهذا يترتب عليه رعاية حقوق المالك الحقيقي أيضاً ، ووجود بعض القيود في الإنتاج ، والتبادل ، والاستهلاك والتوزيع ، وإعادة التوزيع لتحقيق المصلحة العامة  .


سابعاً ـ قوله تعالى : ( وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  حيث فيه التأكيد على خصوصية الاقتصاد الإسلامي ، وخصائصه القائمة على العبودية لله تعالى ، وفعل الخير والاحسان وفي هذا دور كبير في إعادة  التوزيع ، والتكافل الاجتماعي .


ثامناً ـ قوله تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  فهذه الآية الكريمة دعوة صريحة واضحة وبصيغة الأمر الذي يقتضي الوجوب ـ من حيث المبدأ ـ إلى العمل والسعي لتحصيل الرزق بعد الصلاة مباشرة ، وأن لا يبقى أحد في المسجد بعد قضاء الصلاة تاركاً العمل بحجة الانشغال بالشعائر التعبدية ، فهي إذن أهم دعوة للإنتاج من خلال العمل والسعي المتنوع لتحصيل الرزق ، قال الماوردي : ( حكى عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خيرالرازقين) ثم ذكر الماروي أن جماعة من السلف منهم مقاتل والضحاك فسروا (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) بالرزق من البيع والشراء)   أي التجارة ، ولكن الآية عامة في طلب الرزق من أي سبب مشروع سواء كان تجارة أم صناعة أم زراعة أم غيرها .


تاسعاً ـ قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)  حيث تكرر مرتين فجاء في سورة الحشر ، والتغابن بعد الانفاق والإيثار بالمال لصالح الآخرين من المهاجرين الفقراء .


  وهذا من خصوصية الاقتصاد الإسلامي الذي يركز أيضاً على الانفاق الطوعي ، والإيثار ، وعلى تزكية النفس وتطهيرها .


عاشراً ـ قوله تعالى : ( فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ )  حيث جعل الله التوبة والإيمان والعمل الصالح من أسباب الفلاح ، فالعنصران الأولان من القيم الدينية والأخلاقية التي لها دور في النشاط الاقتصادي ، وأما العمل الصالح فهو أهم عنصر من عناصر الإنتاج ـ كما لا يخفى ـ .


الفلاح في السنة النبوية المشرفة :


  فقد تكرر لفظ ( الفلاح ) ومشتقاته في السنة المشرفة كثيراً  منها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حق الإعرابي الذي التزم الفرائض فقط : ( أفلح إن صدق )  ومنها قوله صلى الله عليه وسلم :    ( قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان )  وغير ذلك من الأحاديث ، ولكن بالنظر فيها تدور معاني الفلاح ومشتقاته حول المعاني اللغوية السابقة .


 


الفروق بين الفلاح في النظام الإسلامي ، والنظم الوضعية :


  من خلال الدراسة السابقة للآيات القرآنية والسنة النبوية يظهر بوضوح أن الفلاح في الإسلام يتفق مع الفلاح في النظم الوضعية من حيث الجانب الدنيوي والرفاهية والأمن المادي الاجتماعي والاقتصاي ، ولكنه يختلف عن الفلاح في النظم الوضعية كلها فيما يأتي :


أولا ًـ ان الفلاح في الإسلام له مفهوم متعدد الجوانب والأبعاد ، وشامل لجميع مكونات الإنسان والحياة ، وذلك لأن الفلاح مفهوم شامل للسعادة الروحية والنفسية والبدنية وبعبارة أخرى شامل للقوى المادية والمعنوية ، وللظاهر والباطن ، كما أنه يشمل السعادة والظفر في جميع مناحي الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها .


  وأما الفلاح في النظم الوضعية فمحصور في دائرة الظاهر دون الباطن ، والبدن والمتع الشهوانية دون الجانب المعنوي ، وفي دائرة المال والسياسة دون دائرة الروح والعالم العلوي ، فالفلاح فيها هي السعادة الظاهرية سعادة المال ، وسعادة الجنس والشهوات الدنيوية ، ومتع الحياة الدنيا ، وسعادة الجاه والسلطة ونحوها .


  فالفلاح بمعنى السعادة والظفر والتمتع بالطيبات شامل لكل مكونات الإنسان في نظر الإسلام ، ولجميع مناحي الحياة المتنوعة المختلفة ، وذلك لأنه دين شامل له نظرة شمولية نحو الإنسان ونحو الحياة ، وأنه يريد لهذا الإنسان أن يحيى هذه الحياة الشاملة قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )  .


ثانياً ـ ان الحياة في نظر الإسلام خالدة لا تنتهي بالموت ، بل الموت في حقيقته إحدى محطات الحياة ، لتبدأ بعد ذلك حياة دائمة إما في نعيم مقيم ، أو جحيم مستمر ، في سعادة دائمة ، أو شقاء دائم ، في جنة خالدة ، أو نار مستعرة مستمرة ، لذلك فالفلاح بمعنى الظفر ، والسعادة والتمتع بالطيبات في نظر الإسلام مستم