القبــضُ لغــــة ًمصــدر : قبضـه يقبضـه قبضــاً , وهــو خــلاف البســط , وفي أســماء الله تعالى  ” القابض ” أي هو الذي يمسك الرزق من الأشياء عن العباد و بلطفه و حكمته , ويقبض الأرواحَ عند الممات , ويقال : قبضَ المريضُ إذا توفى , وإذا أشرف على الموت , والقبض بمعنى الأخذ فيقال : قبضتُ مالي قبضاً أي أخذته [1] ,  قال ابن منظور : وأصله في جناح الطائر  قال الله تعالى : {ويقبضنَ بما يمسكهنَّ إلا الرحمنُ }[2] , وقبض الطائرُ جناحه : جمعه , وتقبضت الجلدة ُفي النار : أي انزوت , و القبضة بالضم : ما قبضت عليه من شيء , يقال : أعطاه قبضة من سويق أو تمر , أي كفـا منه , وربما جاء بالفتح , ثم نقل عن الليث أن القبضة : ما أخذتـه بجمع كفك كله فإذا كان بأصابعك فهي القبصة بالصاد , وقال ابن الأعرابي : القبض قبولك المتاع وإن لم تحوله , ثم قال ابن منظــور : و القبض تحويلك المتاع إلى حيزك , والقبض : التناولُ للشيء بيدك ملامسة ً…. , وصار الشيء في قبضي  وقبضتي أي في ملكي [3].

 

 

وخلاصة معانيه تدور حول : الإمساك , وخلاف البسط , و الموت , والأخذ , والجمع , وما أخذ باليد , وقبول المتاع وإن لم يحول إليه , وتحويل المتاع إلى الحيز , و التملك – ونحو ذلك .

 

وورد لفظ ” قبض ” ومشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات , منها قولـه تعالى : {…….ثم قبضناه ُإلينا قبضاً يسيراً }[4] ,  قال المفسرون : أي أخذ نا الظـــل بطلــوع الشمـــس , قبضاً يسيراً أي سريعاً , أو سهلا ً , أو خفياً ,[5] ومنها قوله تعالى : {والله يقبضُ و يبصط }[6],  ومعنى القبض هنا خلاف البسط بدليل المقابلة , أي : يضيق على قوم , ويوسع على آخرين , فقـال بعض المفسرين أي يقبض ويبسط في الرزق , وهذا قول الحسن , وابن زيد , وقال الزجاج : يقبض الصدقات , ويبسط في الجزاء [7] ,  وبالمعنى السابق جاء قوله تعالى : {…ويقبضون أيديهم } [8] , أي يمسكون أيديهم عن الإنفــاق في سبيل الله , أو عن كل خير , أو رفعها في الدعاء . [9]

 

ومنها قوله تعالى : ( وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [10] ,  أي في يده ِ, وتحت قدرته[11] .

  

وورد لفظ ” قبض ” ومشتقاته في السنة ِكثيراً , وهي تدور,  قال ثعلب : ” هذا كما تقول : هذه الدار في قبضتي ويدي , أي في ملكي , قال : وليس بقوي ” [12] ,  وقوله تعالى : ( فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) [13]. حول معانيه اللغوية السابقة  منها قوله ( صلى الله عليه و سلم ) ” قبضَ الله عزوجل أرواحنا وقد ردّها إلينا ” [14] ,  أي أخذها , وروى البخاري تعليقاً بصيغة الجزم أن ابن عمر إذاحج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه [15] ,  أي وضع كفه عليها , ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم ) : {….ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً فهي له …) [16] ,  وغير ذلك كثير .

 

القبض في الاصطــلاح :

 

إذا كان القبضُ في اللغة ِهو أخذ أي شيء , أو التمكن منه فإنه في الاصطلاح الفقهي أخصُ منه حيث هو مخصوص بالمعقود عليه , لكنه ثار الخلاف بين الفقهاء في تحديد مفهـومه تبعاً لوجهات نظرهم المختلفة في كيفية تمام القبض .

 

ثم إن أكثر الفقهاء لم يريدوا أن يضعوا تعريفاً جامعاً لجميع أقسام القبض , وإنما بينوه من خلال أنواعه , كما أنهم أرجعوا أمره كقاعدة ٍأساسية إلى العرف , ولذلك ننقل نصوص الفقهاء بشيءٍ من الإيجاز للوصول إلى حقيقة القبض .

 

فعند الحنفية – كما يقول الكاساني : ” التسليم والقبض عندنا هو التخلية ُ, والتخلي , وهو أن يخلي البائع بين المبيع , وبين المشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكن المشتري من التصرف فيه , فيجعل البائعَ مسلِماً للمبيع , و المشتري قابضاً له , وكذا تسليم الثمن من المشتري إلى البائع ” وذكر ابن عابدين أن من شروط التخلية ِالتمكن من القبض بلا حائل , ولا مانع , ولكن صاحب ” الأجناس ” اشترط شرطاً ثالثاً , وهو أن يقول ” خليتُ بينك و بين المبيع ” [17].

 

وعند المالكية إن القبض هو التخلية ُمن حيث المبدأ.[18]

 

وعند الشافعية – كما يقول الشيرازي : ” والقبض فيما ينقل النقل ُ… , وفيما لا ينقل كا لعقار و الثمر قبل أوان الجُذاذ التخلية …” .

 

ويقول النووي : ” قال أصحابنا الرجوع ُفي القبض إلى العرف , وهو ثلاثة أقسام : أحدهــا العقار والثمر على الشجرة , فقبضه بالتخلية , والثاني ما ينقل في العادة كالأخشاب و الحبوب , والحيتان ونحوها , فقبضه بالنقل إلى مكان لا إختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري , أو موات , أو شارع , أو مسجد , أوغيره  وفيه قول حكاه  الخراسانيون : أنه يكفي فيه التخلية والثالث ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير , والمنديل والثوب والإناء الخفيف , والكتـــاب ونحوها , فقبضه بالتناول بلا خلاف  صرح بذلك الشيخ أبو حامد , والقاضي أبو الطيب , والمحاملي , والماوردي , والشيرازي ….”  وغيرهم .[19]

 

وعند الحنابلة – كما يقول ابن قدامة : ” وقبضُ كل شيء بحسبه , فإن كان مكيـلا ً , أوموزوناً بيع كيلا ً , أو وزناً في مقبضه بكيله , ووزنه ….  وقد روى أبو الخطاب عن أحمـــد رواية أخرى : أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التميز, لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل , فكـان قبضـاً له كالعقار . [20]

 

ويقول ابن حزم الظاهري : “….وإنما على البائع أن لا يَحُول بين المشتري وبين قبض ما باع منه فقط , فإن فعـل صار عاصياً , وضَمِـن  ضمان الغصب فقط [21],  فعلى هذا فالقبض هو التخلية فقط .

 

وكذلك الأمر عند الإمامية حيث أن القبض فيما لا ينقل كالعقار بالتخلية , وكذلك في غيره على الراجح عندهم .[22]

 

وعند الزيدية أن قبض غير المنقول بالتخلية  إتفاقاً , وقبض المنقول به أيضاً عند جماعة منهم , وذهب بعضهم إلى أن قبضه بالنقل للتعارف  بالتفرقة بينه وبين غير المنقول في القبض .[23]

 

ومن هذا العرض يتبين لنا أن إتجاهات الفقــهاء تكاد تنحصر في اتجاهين :

 

إتجاه ٌيرى عدم التفرقة بين جميع أنواع المعقود عليه حيث يتم قبضها بالتخلية فقط , وهذا مذهب الحنفية , والمالكية, وأحمد في رواية, وقول للشافعية حكاه الخراسانيون, والراجح عند الزيدية, والإمامية , والظاهرية [24] , وإليه مالَ البخاري وغيره [25]  .

 

وإتجاه آخر يرى التفرقة بين المنقول , وغيره , وأصحاب هذا الإتجاه وقعوا في خلاف طفيف بينهم , حيث يذهب بعضهم – وهم الشافعية – إلى أن أساس التفرقة هو كون الشيء منقولا ً أو غير منقول , فالمنقول يتم قبضه بالنقل , وفي غيره التخلية .

 

في حين ذهب الحنابلة إلى اعتماد أساس آخر وهو كونُ الشيء مكيلا ً أوموزوناً أوغيره , فما كان مكيلا ً أو موزوناً فقبضه بكيله , أووزنه وما كان غيرهما يكون قبضه بالتخلية [26]  .

 

ومن هنا يتبين أن الجميع متفقـون على أن القبض في العقار يكون بالتخلية فقط , وأما في غيره فيكون بالنقل , أو الكيل , أو الوزن , أو التخلية , أو التناول … .

 


 


([1]) القاموس المحيط , والمصباح المنير , ومختار الصحاح , ولسان العرب : مادة : قبض ” .

([2]) سورة الملك , الآية 19.

([3]) لسان العرب , ط . دار المعارف  ص (3512- 3514).

([4]) سورة الفرقان , الآية 46.

([5]) تفسير الماوردي , ط. وزارة الأوقاف الكويتية (3/158) .

([6]) سورة البقرة الآية 245 وراجع تفسير ابن عطية (2/347) وتفسير الرازي (6/268) وتفسير الماوردي (1/262) .

([7]) تفسير الماوردي (1/262) و المصادر السابقة .

([8]) سورة التوبة ,الآية 67.

([9]) تفسير الماوردي (2/150) و المصادر السابقة .

([10]) سورة الزمر ,الآية 67.

([11]) تفسير الرازي (27/17) وتفسير الماوردي (3/473) .

([12]) لسان العرب, ص (3513). ونحن حقا لسنا مع التأويل في مثل هذه الآيات , وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لذاته العلية مع التنزيه , وعدم التشبيه .

([13]) سورة البقرة , الآية 283 .

([14]) مسند أحمد (4/91) عن ذي مخمر الحبشي .

([15]) صحيح البخاري – مع الفتح – كتاب اللباس (10/349).

([16]) رواه ابن ماجه , كتاب الأحكام (2/790) الحديث (2359) .

([17]) بدائع الصنائع , ط . الامام بالقاهرة (7/3248) , ورد المحتار على الدر المختار , ط . دار إحياء التراث العربي (4/42) , والفتاوى الهندية , ط  دار إحياء التراث العربي (3/15) .

([18]) يراجع : بداية المجتهد (2/144) و الفواكه الدواني ط . الحلبي (2/117) و يراجع : فتح الباري حيث أسند هذا الرأي إلى المالكية صراحة .

 

([19]) المهذب مع شرحه المجموع (9/275- 276)  .

([20]) المغني (4/126) .

([21]) المحلى (9/345) وفي ص 592 : ” وقبضه له : هو أن يطلق يده عليه بأن لا يحال بينه وبينه ” .     

([22]) المختصر النافع للمحلى , ط . أوقاف مصر ص (148) .

([23]) البحر الزخار , ط . مؤسسة الرسالة بيروت (4/369) .

([24]) المصادر الفقهية السابقة جميعها .

([25]) فتح الباري شرح صحيح البخاري , ط. السلفية بالقاهرة (4/334- 335) .

([26]) المصادر الفقهية السابقة .