الدوحة – الشرق

الحلقة : السابعة

كما أن الله تعالى بيّن أن أصحاب العقول الكاملة هم الذين يستفيدون من الماضي وغيره فقال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ” كما أن الله تعالى بيّن أن أولي الألباب السليمة هم وحدهم الذين يستمعون سماعاً جيداً، ويميزون بين القول السيئ والأسوأ، والقول الحسن، ثم بين القول الحسن، والقول الأحسن، ولديهم فقه الأولويات، والموازنات فقال تعالى: “الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ”. 3 ـ الأمر باستعمال دقيق وصحيح وشامل لمصادر معلومات العقل بصورة صحيحة: من التجارب الممثلة في التاريخ وقصص الماضيين بحيث يحللها العقل ويستفيد منها فقال تعالى: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الالباب” أي لذوي العقول الذين يستفيدون من إيجابيات الماضي ويتعظون من سلبياته، لكنهم لا يقفون عند الماضي، ولا يجمدون عنده، بل (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بل إن الله تعالى أمر العقلاء بالاعتبار في سبع آيات، والاستفادة من الماضي، والمشاهد، فقال تعالى : “…….. فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ”.

وكذلك الاستفادة من الحواس الخمس من النظر والبصر والسمع فقال تعالى في وصف أهل النار : “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”.

وهذا المنهج الدقيق القائم على استعمال العقل وصفاء مصادر معرفية، يوصل صاحبه إلى الحق، والى الابداع، والاستفادة من الماضي، والتخطيط للمستقبل، وهو الذي تبنى به الحضارة.

بل إن الله تعالى أمر بالنظر في الكون كله، وفي خلقه، وفي طعامه وشرابه، وغير ذلك حتى يكون جمه دقيقاً، فقال تعالى : “أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ” وقال تعالى : “فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ” والمقصود بذلك أن تنظر العين نظرة دقيقة وأن يجعلها العقل تحليلاً شاملاً عميقاً، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بالابصار الذي هو الرؤية المعنوية العقلية الناتجة عن الرؤية البصرية، حيث يقول تعالى : “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ” أي أن هؤلاء يرون ما يحدث، ولكن ليست لديهم البصيرة العقلية، وبذلك لم يستفيدوا من حواسهم على سبيل الحقيقة والنتائج.

وقد ورد النظر ومشتقاته في القرآن الكريم مائة وتسع وعشرين مرة، والبصر ومشتقاته مائة وثمان وأربعين مرة.

4 ـ الأمر بالتدبر في أربع آيات كريمة حول التدبر في القرآن الكريم فقال تعالى: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ” وقال تعالى : “أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً” . 5 ـ الأمر بالتفكر والدعوة إليه، ورد في القرآن الكريم ست عشرة مرة، منها قوله تعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا” وقوله تعالى : “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ”.

بل إن الأستاذ عباس العقاد رحمه الله جعل عنوان كتابه “التفكير فريضة إسلامية” .

6 ـ الأمر بالتفقه والدعوة إليه في آيات كثيرة، حيث ورد الفقه ومشتقاته عشرين مرة، منها قوله تعالى : “انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ” .

7 ـ الأمر بالتذكر والدعوة إليه في آيات كثيرة، حيث ورد التذكر ومشتقاته في القرآن الكريم مائتين وتسع وستين مرة منها قوله تعالى : “إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” .

8ـ ذم الذين عطلوا عقولهم بالتقليد والتعصب الأعمى فقال تعالى : “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ” بل بيّن الله تعالى أن الفرق بين الإنسان والحيوان هو استعمال العقل فقال تعالى : “أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً” ، وهناك عشرات الآيات يفهم منها الذم القبيح لمن لم يستعمل عقله، أولا يتدبر، أو لا يتذكر، أو لا يتفكر، أو لا يبصر.

والخلاصة أن الإسلام أعطى قيمة عليا لعقل الإنسان وفكره، حتى نستطيع القول بكل ثقة: إنه لم يوجد نظام آخر أو دين يعطي كل هذه الأهمية للحرية الفكرية

الجانب التطبيقي للحرية الفكرية:

ولقد سارت الأمة الإسلامية في عصر الرسالة، وبعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، على احترام العقل، وتفعيله وتشغيله من خلال الاجتهاد الذي يشمل النصوص الظنية، والنوازل والمستجدات، فلم يتوقف الاجتهاد، بل أوجد الحلول لكل القضايا المعاصرة، بدءاً من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى اليوم.

ومن جانب آخر فإن علماء المسلمين عرفوا حق المعرفة مجالات العقل في الإبداع، حيث هي تشمل كل العالم المحسوس بما فيه من كنوز وخيرات، ولم يستعملوا عقولهم في عالم ما وراء الطبيعة “الميتافيزيقيا”، ولذلك تحققت خلال فترة وجيزة حضارة إسلامية استفادت من كل التراث الإنساني، وأضافت إليه الكثير والكثير في مختلف مجالات العلوم والفنون والصناعات.