الدوحة – الراية:
دعا فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى عدم نسيان الذين شردوا في سوريا، وفي غير سوريا، وهم يقتلون ويذبحون، ولا يجدون الملجأ والطعام، حيث يتعرضون لمخاطر الموت بجميع أنواع الأسلحة الفتاكة، مشيرًا إلى أن تذكر هؤلاء واجب أساسي.
وقال في خطبة الجمعة أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها: لابد ألا ننسى ونحن – المسلمين – جسد واحد إخواننا في سوريا، ولابد أن نذكرهم دائمًا بالدعاء والتضرع والدعم المتواصل لهم، ولكل من هو محتاج سواء داخل سوريا أو خارجها.
كما تذكر فضيلته إخواننا في ميانمار الذين يتعرضون للإبادة الجماعية، وإخواننا في فلسطين حيث لايزال الظلم قائمًا وكل الوسائل التشريد والإبعاد قائمة في هذا المكان الطاهر والبلد العزيز، لافتًا إلى أن الشام يشمل فلسطين وسوريا ولبنان والأردن التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا فسد الشام فلا خير فيكم”. لذلك واجبنا كبير أمام إخواننا بكل ما نملك، لأنهم هؤلاء ضحوا بكل ما يملكون، فعلينا على الأقل أن نضحي بأموالنا إن كنا صادقين في إخوتنا.
وقال فضيلته: أتعجب من أن أهل الفساد متحدون وأهل الحق مختلفون ومترددون، ولاشك أن القادرين في الأمة الإسلامية، مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى عن حق الله عليهم في سوريا، وعلينا أن نلتجئ إلى الله أولاً، ثم نلتجئ إلى شعوبنا الإسلامية وأمتنا الإسلامية، التي يجب عليها شرعًا وإنسانيًا أن تقوم بإنقاذ الشعب السوري مما يحدث له من هذا الإجرام.
وكان فضيلته قد بدأ خطبته قائلاً: كلما جاءت فترة الصيف انشغل الآباء والأمهات بأمرين خطيرين مهمين، الأمر الأول: فراغ الأولاد ذكورًا وإناثًا، وعدم انشغالهم بالمدرسة والدراسات، بحيث يكون هناك أوقات كثيرة يكون الأولاد فيها فارغين، وحينما يكون هناك الفراغ تكون الخطر ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي انتشرت فيه وسائل الإعلام والإلكترونيات، وفي ظل هذه المعطيات غالبًا ما يمتلئ الأبناء بالجوانب السلبية وليست بالجوانب الإيجابية.
وأضاف: الدراسات تقول إن معظم حالات الفساد والأحداث التي تقع للأولاد تقع في فترة الصيف، بحيث يكون هناك فراغ، ويستغل هذا الفراغ أصدقاء السوء فقط سابقًا، أما اليوم فيستغل بأصدقاء السوء وكذلك الوسائل الخطيرة والأفلام، وحتى بعض الألعاب التي في ظاهرها لعب ولكنها في حقيقتها تدمير للأخلاق والقيم.
وأشار إلى مسؤولية الوالدين قائلاً: هنا تصبح مسؤولية الوالدين، والإخوة الكبار، مسؤولية أكثر خطورة وأكثر مما كانت عليه هذه المسؤولية في الأيام السابقة أو في العقود السابقة، وبما أننا قلنا لا يمكن التشبيك، أي لا نستطيع أن نمنع منعًا باتًا من هذه الوسائل، إذًا ليس أمامنا إلا التحصين،أي أن نحاول بكل الوسائل، أن نضع أولادنا ذكورًا وإناثًا داخل حصن منيع ذاتي، يكون لديهم القدرة على هذه الوقاية بعد الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وهذا الحصن هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بالوقاية وحيث أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك: ( يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة)، وهنا جاء العطف بالواو، الذي يدل على الجمع المطلق دون أي تراخٍ أو ترتيب، مما يدل على أن مسؤوليتنا ليست منحصرة في أنفسنا بل إن هذه المسؤولية بنفس المستوى وبنفس القوة والمقدار تكون هذه المسؤولية أمام أولادنا وأهلنا وكل من نحن مسؤولون عنهم.
ورأى فضيلته أنه إذا كان المطلوب هو الحصن أو الوقاية أو التقوى حسب التعبير القرآني، فكيف نحقق هذا الحصن؟ لأولادنا وكيف نحقق هذه الوقاية والتقوى لأولادنا وأهلنا وكذلك لأنفسنا ؟ وأجاب : هنا تختلف الفلسفات في العالم في تحقيق الحصن والتربية، العالم اليوم في معظمه ولاسيما في العالم الغربي يعتمد على الفلسفة النفعية، التي تبحث عن المنافع والمصالح، وحينما تقع الأزمات والمشاكل الأخلاقية يعود فلاسفة التربية إلى ما يسمونه بتربية الضمير، أي أن يربى الضمير على الأعمال والقيم الصالحة وعلى السلوكيات الطيبة وغير ذلك. .ولكن التجارب والحقائق دلّت بأن الضمير وحده لن يستطيع أن يقف أمام المغريات المادية والجنسية وغير ذلك . فالأزمات التي تحدث في هذه العوالم تضاف لهذه الأزمات فترتبط بالأزمات الأخلاقية.
وتوقف فضيلته عند المنهج فقال: أما المنهج القرآني منهج متكامل لا يترك شاردة ولا واردة إلا ويهتم بها، ويعتمد على إيجابياتها، حتى الفلسفة النفعية أي المصالح والمفاسد تعتمد عليها التربية الإسلامية، ولكن في دائرة القيم الإسلامية وفي دائرة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة.
ودعا إلى أن ترتكز هذه التربية أساسًا على غرس العقيدة والخوف من الله تعالى في داخل النفوس منذ الصغر، ثم تكرار ذلك والتأكيد على ذلك إذا فاتنا في الصغر، أن نركز على هذا الجانب، لأنه أثبتت التجارب أنه إذا ثبتت العقيدة الصحيحة ورسخت العقيدة الصحيحة في داخل القلوب والنفوس وارتبط الإنسان بالله سبحانه وتعالى حتى لو وقع في خطأ أو خطيئة فسرعان ما يعود إلى الحق، ولن يستمر على الباطل، والوقوع في الخطأ أو الخطيئة لا سيما في الخطأ أمر طبيعي بشرط أن يعود الإنسان إلى الله (كل ابن أدم خطّاء وخير الخطائين التوابون) .
واستطرد قائلاً: إن التجارب تدل على مر التاريخ كيف تحمي العقيدة الإنسان من كل المغريات، بدءًا من التجربة التي ذكرها القرآن الكريم، تجربة سيدنا يوسف، وكيف وقف هذا الشاب اليافع الصغير أمام كل هذه المغريات وهو بعيد عن رقابة الأهل والمجتمع، ولكن الله حماه بها الحصن الحصين داخل قلبه وهو العقيدة. لذلك يجب أن نركز تمامًا على شيئين أساسيين في غرس الحب لله سبحانه وتعالى بأننا لا نرتكب الفواحش لأننا نحب الله ولا نريد أن نغضب الله سبحانه وتعالى، والجانب الآخر الخوف ولا نرتكب الفواحش؛ لأننا نخاف الله من غضبه ومن عذابه ومن عقابه في الدنيا والآخرة.
وأكد أن هذه القضية أساسية ومهمة جدًا في تربيتنا الأساسية، ثم بعد ذلك تأتي الفوائد المرجوة من الأخلاق والعقيدة الصحيحة، ومن هنا ندخل فيما يسمى بالفلسفة النفعية في هذه الدائرة، دائرة الشريعة الإسلامية التي هي أساسًا مع تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ونربط ذلك أن كل ما نهى الله عنه فهو شر وهو خبث وهو ضرر ومفسدة، وهنا استعمل القرآن الكريم التربية الداخلية، التربية الوجدانية، وركز بهذه التربية الوجدانية على الضمير الإنساني والفطرة السليمة داخل الإنسان، وقوّاها بهذه العقيدة ولم يترك الضمير وحده أمام هذه المغريات التي لا يستطيع وحده أن يقف أمامها، ثم بعد ذلك ركز على التربية الاجتماعية التي تقوم بها الفلسفات ذات النزعة الاجتماعية من حيث إنه لابد أن تكون عضوًا صالحًا في المجتمع، واستعمله القرآن الكريم بأكثر ما يمكن استعماله من وسيلة بدءًا من الوالدين وبقية المجتمع، وفرض على المجتمع مسؤولية أمام الآخرين لأنه لا يجوز لنا أن تترك المفسد أو العاصي دون أن نأخذ على يديه بكل الوسائل المتاحة.
وأشار إلى أنه بالإضافة إلى التركيز على العبادات الحقيقية لأنها تمنع الإنسان من الفحشاء والمنكر، فالصلاة لابد أن تمنعك من الفاحشة، وبالتالي نغرس في أولادنا هذه الفلسفة الأساسية، أو الحكم والمقاصد للصلاة، وكذلك الصيام في أن يحقق لنا هذا الحصن والوقاية.
وقال: نظرًا لأهمية هذه التربية القرآنية العظيمة الشاملة لكل هذه الجوانب، ذكر الله سبحانه وتعالى لنا تجربة ناجحة وهي تجربة سيدنا لقمان الحكيم الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى الحكمة من الصغر، تجربة ليس من نبي وإنما من حكيم مسلم عظيم، خلّد الله اسمه وتجربته، وأصبحنا اليوم نقرأ هذه الآيات من القرآن الكريم وبكل حرف من قراءة هذه التجربة لنا عشر درجات.
ولفت فضيلته إلى أن لقمان ركز في تجربته على هذا الجانب العقدي وربط الابن بالله (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم)، ثم بين كيف يربط قلب ولده بالله حبًا وخوفًا، فقال (يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله)، فكل ما تفعله يراه الله ويأتي به فيحاسبه عليه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.. غرس هذه العقيدة في نفس ولده ثم بعد ذلك ركز على هذا الجانب الداخلي العقلي والقلبي والروحي لتصفيته، وربطه بالله، الذي يصل به الإنسان إلى مرتبة الإحسان التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ثم بدأ لقمان بعد ذلك بذكر العبادات (يا بني أقم الصلاة) وكلمة إقامة الصلاة غير أن يؤدي الصلاة، فإقامة الصلاة أي أن يؤديها مع الناس، مع الجماعة، أي ربط الأولاد بالمسجد، ويحضرون الصلوات الخمس بقدر الإمكان مع والدهم, وقد روى لي أحد الأشخاص عن سبب عودته ورجوعه إلى الله بعد فترة قضاها في الفجور والعصيان بسبب أصدقاء السوء، وقال كلما أردت أن أشرب الخمر تذكرت ذهابي إلى المسجد مع والدي للصلوات، فكان هذا المنظر يمنعني من حس الاستمتاع بشرب الخمر، إلى أن غلبني هذا الشعور فتركت الخمر وأصدقاء السوء وعدت إلى الله تعالى. ثم وجه لقمان ابنه لأن يكون له الجرأة الأدبية، أي أن يفصح بالحق حتى على والديه، ويأمر يالمعروف وينهى عن المنكر، فعلّمه الجرأة لأن هناك قاعدة تقول إن الذي لا يُؤثّر يَتأثر.
وأشار إلى أن سيدنا لقمان لم يكتف في تجربته العظيمة في التربية من خلال التلقين فقط، وإنما فصل له، وذكر له لكل خلق دليلين: دليلاً نصيًا وشرعيًا والدليل الثاني من خلال الإثباتات والتجارب الحية ليُتعظ بها.