أجمع عدد من أساتذة الشريعة وعلماء الدين، على ضرورة التجديد في الخطاب الديني، ولكن مع مراعاة الحفاظ على الثوابت، مشيرين في تصريحاتهم لـ الوطن، إلى أن معضلات الأمة، لن تجد لها حلولا بمعزل عن دينها، الذي ارتضاه الله لها بالأدلة البينات والحجج الواضحات، بشرط سلامة منهج التعامل مع النصوص، وعمق الفهم لمقاصد الشريعة، وحسن تنزيل الأحكام الشرعية، على واقع اتضحت معالمه واستوعبت عناصره وأبعاده.
وأوضح العلماء أن من أخطر التحديات التي تواجه تجديد الخطاب الديني، تحريف المفاهيم لعدم استيعاب أصولها الأولى، أو للجهل بالشروط الزمانية والمكانية التي تعيد صياغة المفهوم؛ لافتين إلى أهمية تخليص الخطاب الديني من أهواء التسييس، سواء من قبل الأنظمة الحاكمة أو التنظيمات التي توظف الدين في العمل السياسي، بالإضافة إلى ضرورة التحرر من سطوة المواريث الماضوية، التعصبية والتمييزية والإقصائية، والتي تشكل أغلالاً خانقة لعمليات تجديد الخطاب الديني.
يذكر أن إعلان باريس، أغسطس 2003، حول «السبل العملية لتجديد الخطاب الديني»، كان قد دعا إلى تجديد الخطاب الديني، كضرورة ملحة لعبور الفجوة الواسعة، التي تفصل العالم العربي والإسلامي عن العالم المتقدم، وعامل رئيس لتجديد الحياة السياسية والاجتماعية، ومنذ ذلك الإعلان وإلى يومنا هذا، شهدت الساحة العربية العديد من الجهود، سواء على مستوى المؤسسات الدينية الرسمية، أو على مستوى المراكز البحثية التي نظمت عشرات المؤتمرات والندوات حول سبل تجديد الخطاب الديني وتذليل معوّقاته، لكن النتائج المتحصلة قليلة ودون المأمول، ولم تحقق أهدافها في تحصين الشباب من فكر التطرف، وفي تفعيل القواسم المشتركة بين المذاهب والأديان، وفي تقديم خطاب ديني جديد منسجم مع الذات ومتصالح مع العالم، وبطبيعة الحال فإن المؤسسات الدينية، لا تتحمل وحدها المسؤولية، فطبقاً لإعلان باريس، فإن مهمة تجديد الخطاب الديني لا تنحصر في جهد رجال الدين المستنيرين، بل يجب أن تكون من أولى مهام المفكرين والمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان.
نطاق المتغيرات
بدايةً أوضح فضيلة الشيخ الدكتور علي محيي الدين القرة داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن الخطاب الديني يجب أن يتجدد كأسلوب وأداة في نطاق المتغيرات، مشيراً إلى أنهم مع التجديد ولكنهم في ذات الوقت مع الحفاظ على الثوابت، مبيناً أن بدون هذه الثوابت سوف تفقد الأمة الإسلامية هويتها، موضحاً أن الإسلام يريد لهذه الأمة، أن تكون لها ثوابتها ومتغيراتها لمواكبة العصر، لافتاً إلى أن الخطاب الدعوي الناجح هو الذي يجمع بين الأصالة، من حيث التأصيل الشرعي، والمعاصرة من حيث علاقته وبالعصر الذي يعيش فيه الداعية، فعصرنة الخطاب الإسلامي هو الاستفادة من كل تقنيات العصر، ومؤثراته وأدواته ليكون مقبولًا ومؤثراً يؤدي دوره، ويفعل فعلته في القلوب والنفوس، فقال تعالى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، حيث يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخطاب الطيب المؤثر هو الذي له أصل ثابت من خلال ربطه بالوحي، وله جذور قوية من خلال تاريخنا الطويل وهو تاريخ الدعاة الأنبياء والدعاة الصالحين منذ آدم إلى الآن، وأن فروعها في السماء تتدلى أغصانها وتستنشق الهواء الطيب، وتزداد جمالاً ورونقاً وشموخاً، وفي ذلك إشارة إلى أهمية أجواء الحرية، وأهمية التوسع، والتواصل مع الآخرين، وتجدد الخطاب ومرونته، كما هو الحال في الغصن والفرع.
أهواء التسييس
بدوره أشار المفكر والباحث في الشؤون الإسلامية الدكتور عبدالحميد الأنصاري، إلى ضرورة الوصول إلى توافق مجتمعي؛ سياسي وثقافي واجتماعي، سواء فيما يتعلق بضرورة تجديد الخطاب الديني، أو فيما يتعلق بكيفية هذا التجديد، لافتاً إلى أهمية تخليص الخطاب الديني من أهواء التسييس، سواء من قبل الأنظمة الحاكمة أو التنظيمات السياسية التي توظف الدين، مشيراً إلى أن هذه العقبة كأداء يصعب التحرر منها، فالدين منذ أن نزل وارتبطت به حياة الناس، قيماً وإرشاداً وسلوكاً وأحكاماً موجهة، وهو عرضة للتوظيف النفعي الانتهازي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ومذهبياً، ومع ذلك، فإن تفعيل آليات التغيير في المجتمعات العربية، يمكنها من الوصول إلى فهم متقدم للإسلام، متحرر من الأهواء السياسية، بالإضافة إلى ضرورة التحرر من سطوة المواريث الماضوية، التعصبية والتمييزية والإقصائية، والتي تشكل أغلالاً خانقة لعمليات تجديد الخطاب الديني، وهذا لن يتحقق إلا إذا آمنا بأن حلول الماضي كانت صالحة لقضايا الماضي، وغير صالحة لقضايا مجتمعاتنا المعاصرة، وأن الاجتهادات الفقهية الماضية إنما كانت بنت ظروفها المجتمعية في حقبة زمنية معينة فحسب، ولا يجوز سحبها إلى عصرنا، لذلك علينا إعلان القطيعة مع كل موروث ثقافي ينتقص من حقوق المرأة ويقيد حركتها المجتمعية ويحرمها من كل نشاط اجتماعي أو سياسي أو تنموي يخدم وطنها وأمتها، وعلينا غربلة التراث وتنقيته من كل ما يصادم حرية الإنسان وكرامته، يجب التخلص من كل موروث فقهي يزرع الكراهية ضد الآخر الديني أو يحرِّم عليه بناء دور عبادته أو تبوء المناصب القيادية، ويجب التصدي بقوة للخطب التي تقدس ثقافة الموت والانتحار وتحرض الشباب على كراهية الغرب وتدعو عليهم بيتم أطفالهم وجعل أموالهم غنيمة لنا، بحجج زائفة مثل الجهاد والاستشهاد والثأر للكرامة! على الخطاب الديني الجديد الإقلاع عن عادة لوم الآخر الغربي وتصويره عدواً متآمراً، وتحميله مسؤولية تردي أوضاعنا.
التجديد والترسيخ
ومضى في ذات الاتجاه الدكتور يوسف الصديقي عميد كلية الشريعة بجامعة قطر، الذي أوضح أن الخطاب الديني فعلاً، في حاجة إلى تجديد وترسيخ قواعده وبيان قيمته والغاية منه، خصوصاً مع تداخل دول العالم مع بعضها البعض في الجوانب الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية، لافتاً إلى أنه نحن في حاجة بصراحة إلى أن يأخذ هذا الخطاب الديني شكله الصحيح، قائلاً: لكن للأسف المجتمعات الإسلامية والعربية تمر بفترة غير مستقرة، وبالرغم من ما ذهب إليه الدكتور الصديقي في حديثه، إلا أن بعض القطاعات المجتمعية الفكرية مازالت تنظر إلى دعوات التجديد بشك وريبة، وتراها إملاءات خارجية (غربية) تخفي أجندة سياسية هدفها استدامة التبعية، فلكل مفهومه وتفسيره واجتهاده، فهناك من يرى منطلق التجديد من القرآن والسنة الصحيحة، وهناك من يركز على مرجعية القرآن وحده، بينما يرى آخرون التجديد بالتركيز على الفكر المقاصدي، ويذهب اتجاه رابع إلى «الفصل بين الدين والدولة» كمنطلق للتجديد، وهناك اتجاه خامس معني بقراءة تاريخية النصوص في سياق سياسي اجتماعي، وهناك اتجاه سادس لا يؤمن بجدوى تجديد الخطاب الديني أصلاً! وفي غيبة الرؤية الموحدة للتجديد يصعب تحقيق الأهداف المنشودة من التجديد.
ضرورة التجديد
من جانبه تساءل فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن حسن المريخي، الداعية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ما المقصود بتجديد الخطاب الديني، موضحاً إذا كان المقصود بالتجديد هو الإتيان بغير ما أنزل الله والرسول، يكون هذا الحديث في غاية الكذب والافتراء على الدين، لأن الأمة الإسلامية لن يكتب لها نصر أو فوز، إلا تحت ظلال كتاب الله ورسوله، مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غدوتهم ، وإذا كانت هنالك ضرورة للتجديد، لابد من وجود رأي ديني مستنير دون المساس بالثوابت، حتى تعلم الأمة ما يدور حولها من متغيرات، وألا يكون الخطاب الديني خطاباً تقليدياً متجاوزاً كل المتغيرات، بل لابد أن يتسع لاستيعاب كل متغيرات الحياة المعاصرة وإبراز الجانب الإنساني في تعاليم الدين، والتأكيد على رفض الأديان عامة والإسلام خاصة للعنف والإرهاب والتطرف، إذا حدث التجديد على هذا النحو سيكون أحد الحلول لأزمات الأمة المتراكمة.
تحقيق- أكرم الفرجابي – الوطن القطرية