الدوحة – الشرق
الحلقة : التاسعة
العقد الذي يتم بين الحاكم والمحكوم سواء كان عقداً شفهياً، أم مكتوباً:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم (وهو رسول) حينما أخذ البيعة من الأنصار في بيعة العقبة الثانية كان فيها شرط ينص على أن: (تنصروني، فتمنعوني إذا قدمت إليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم…. )، وكان الأنصار اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: (إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، نمنعك ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا).
واحتراماً لهذا الشرط الذي يدل على أن الأنصار يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلدهم، ولم يبايعوه على القتال معه خارجه، لذلك اقتصرت السرايا التي سبقت بدر على المهاجرين، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم موافقتهم الصريحة على ذلك، حيث شاور الصحابة عامة، ثم خص الأنصار بالمشورة للحصول على الموافقة على هذا الموقف الجديد الذي لم يكن موجوداً ضمن شروط العقد السابق، فقد روى ابن اسحاق خبر المشورة بسند صحيح وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الناس الموجودين معه، فقام ثلاثة من المهاجرين هم أبوبكر وعمر، والمقداد بن عمرو فأحسنوا في الرد والقبول، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشيروا عليّ أيها الناس؟ فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: (أجل) ثم قال قولته المشهورة.
وبهذا ظهر أن جملة من العلاقات والشؤون ينظمها عقد البيعة، وأن جميع الشروط المتضمنة له يجب الالتزام بها ما دامت لا تتعارض مع النظام العام، والأدلة الشرعية الثابتة الصريحة.
فهذا العقد كأي عقد له ستة أركان مفصلة، أو ثلاثة مجملة، وهي:
1 — العاقدان، وهما: الأمة أو ممثلوها الشرعيون، والشخص المختار.
2 — المعقود عليه، وهي الحقوق الخاصة بالأمة، والحقوق الخاصة بالقائد.
3 — والصيغة الدالة المعبرة عن رضا الطرفين أي الايجاب والقبول سواء كانت باللفظ فقط، أو بالكتابة، أو نحوهما.
عقد خاص
وأما طبيعة العقد، فهي عقد خاص في نظري أشبه ما يكون بعقد الوكالة بالأجر، ولذلك سمى بعض التابعين الخليفة معاوية بـ “الأجير” فقالوا: (السلام عليكم أيها الأجير) ومن هنا فإن عقد الوكالة بالأجر يكاد ينطبق تماماً على ما يسمى بالبيعة.
ومن الجدير التنبيه عليه هنا أن المراد بالبيعة هنا: الصفقة، وقد استعملت هذه الكلمة في هذه الدائرة لشبه العقد السياسي بصفقة البيع من حيث إن المبايع يعاهد أميره بوضع اليد في يده كما يفعله المتبايعان، يقول ابن خلدون: (اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على كذا….، وكانوا إذا بايعوا الأمير، وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة مصدر “باع”، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي، هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع).
ومن المتفق عليه أن هذا العقد يتم بالأركان الستة، بل إن أهم أركانها هو الايجاب والقبول، أنه لا يشترط فيه وضع اليد، وإنما كانت هذه عادة غير ملزمة، بل هي للتأكيد فقط.
وقد سمى القرآن الكريم ذلك بالمبايعة فقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) وهذه الكلمة تدل على المشاركة لأنها من صيغة المفاعلة مما يظهر منها بوضوح الدلالة على عقد يجمع الطرفين على حقوق والتزامات.
وفي ضوء ذلك، فإن عقد المبايعة عقد له طبيعته الخاصة، ويشبهه من عقود الأفراد: عقد الوكالة بأجر، وبالتالي فهو من زمرة العقود والدائرة بين المعاوضات والتبرعات، وأن محل العقد هو مجموعة من الحقوق الخاصة بكل واحد من العاقدين، وهما الأمة أو ممثلوها، والقائد أو الحزب الذي يمثله، وأن هذا العقد يخضع في شروطه، ومدته وآثارها وحقوقه إلى النظام العام الذي سنتحدث عنه، وإلى القيم العامة (الدينية، والإنسانية الثابتة) وإلى بنود العقد أو الدستور الذي ينظم هذه العلاقة.
وقد حدد الخليفة الأول أبوبكر الصديق (رضي الله عنه) عندما بويع بالخلافة جملة من هذه الحقوق كما سبق.
الأمر الثالث: القيم السامية (الدينية والإنسانية):
وبالإضافة إلى أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو بين الراعي والرعية تخضع للنظام العام، والعقد حسبما ذكرنا، فإنها تخضع في الإسلام أيضاً للقيم السامية التي تكوّن القيم الإنسانية الفطرية التي فطر الله الناس عليها جزءاً أساسياً منها، والتي أكدها الإسلام، وفتح الباب لدخول كل قديم صالح وجديد نافع فيها.
فالراعي سواء كان رئيساً أم غيره فهو مسلم وبالتالي لابد أن يخضع لكل أحكام الشرع وقيمه السامية في العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين أخيه الإنسان، وبينه وبين أمه الأرض والبيئة، وبالتالي فتجب عليه حقوق الاخوة الإيمانية، وكذلك تجب على الشعب أو الأمة مثل هذه الحقوق.
ومن جانب آخر، فإن الإسلام يريد أن تكون هذه العلاقة قائمة على أساس المحبة المتبادلة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح رواه مسلم بسنده عن عوف بن مالك، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم).
وهذه المحبة تنبثق من الإيمان والاخوة الإيمانية، وتترتب عليها حقوق وواجبات كما سيتضح فيما بعد، وأما أساس العلاقة من العملية فهو العقد الذي بموجبه يعطي الشعب أو ممثلوه البيعة للحاكم، حيث قد يكون هذا العقد مشافهة كما كان في السابق أو مكتوباً من خلال الدستور الذي اختاره الشعب أو ممثلوه الحقيقيون، والذي يُحدد الحقوق والواجبات، أو من خلال عقد مكتوب، ومن المؤكد شرعاً وعقلاً وتجربة أن الذي يحقق المحبة بين الطرفين هو العدل والاحسان، والشورى، واحترام الآخر، وحماية حقوقه وكرامته، فقال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، فهذه الآية الكريمة بينت أسباب تحقيق المحبة بين الراعي والرعية، وهي الرفق واللين والرحمة، والابتعاد عن فظاظة القلب، وبذاءة اللسان، ثم إن الدعاء من الراعي بالعفو والمغفرة للرعية، وهذا لا يتحقق إلا من خلال المحبة المفضية للدعاء في ظهر الغيب، ثم احترام الرعية من خلال الرجوع إليهم بالتشاور في أي شأن مهم يهمهم.
ويقول ابن خلدون: (وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النّعرة، والنصرة التناصر، وهذا مشاهد بين الناس).