اعتبر فضيلة الشيخ د.علي محي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كل المشاكل في الأمة الإسلامية في تفرقها وتمزقها، وما وصل إليه الأمر من الشعوب أن يضحوا بنفسهم، وبفلذات أكبادهم بسبب هذا الفساد، الذي عم معظم العالم الإسلامي،

كما قال الله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، ولاسيَّما مع هذه الحكومات الدكتاتورية التي وصل بهم الاستبداد والاستكبار والظلم إلى أن لا يحس الإنسان داخل هذه البلاد بنفسيته وإنسانيته وكرامته وبكلمته، ويخاف متى يؤخذ، ومتى يعتدى عليه، ومتى يأتي زوار الفجر، وكم قتلوا، وذبحوا وأهانوا.

وقال إنه في سوريا في الثمانينيات كم من النساء اعتقلن وسجن وقتلن بالتعذيب، مما يهتز لها القلوب. لذلك ثارت الشعوب، ووقفة هذه الشعوب مبررة شرعا وقانونا، وهؤلاء لم يقوموا بالسلاح وإنما قاموا بالمظاهرات السلمية في سوريا وفي كل بلدان الربيع العربي، ولكن الحكام الظلمة قاوموا السلم بالاعتداءات،

 وأول من اعتدي عليهم كانوا الأطفال، وهكذا كانت البداية لهذه الثورة المباركة في سوريا، وشعارهم في الثورة وكأن الله ألهمهم (ما لنا غيرك يا الله) وبالفعل لم يعينهم في

 مواجهة النظام الشرس إلا الله، وكذلك بعض الدول منها قطر وتركيا والسعودية ويحارب الثوار النظام بالأسلحة التي يغتنمونها من جيش النظام، الذي أساسا كوِّن لمحاربة إسرائيل ولكنهم رجعوا من الجولان والآن أسلحتهم موجهة للثوار وإلى صدور الثوار.

 

ودعا فضيلته إلى الوقوف مع الشعب السوري والوقوف معهم فريضة شرعية ومن تخلف عنها فهو آثم، فيجب دعمهم بالمال وعلى الحومات بالسلاح والتأييد، وجزى الله قطر خيرا فقد طرد السفير لهذا النظام الفاسد وأتبعه بتعيين سفير للثوار ليكون سفير الجمهورية الجديدة قريبا بإذن الله، ونرجو من الدول الأخرى أن تقلد قطر في هذه الخطوة، فما الذي بقي من شرعية النظام حتى تبقى سفراؤهم.

 وقال إن أوروبا تتدعي مساندة الشعب السوري ولكن مصلحتها في إسقاط الشعب السوري كله ومؤسساته وكله، لأجل إسرائيل، وأن تنشغل سوريا بنفسها لسنوات، وعدم الاتفاق بين الدول المتحررة لإنهاء العدوان في الأراضي المحتلة في فلسطين.

 ولا ننسى إخواننا في العراق الذين يطالبون بحقوقهم بثورة سلمية ولكنها لا تستجاب ونرجو من الحكومة الاستجابة لمطالبهم وتبقى ثورتهم سلمية وإلا فنار الفتنة الطائفية تأكل الأخضر واليابس.

وما يحدث في فلسطين، في غياب وانشغال المسلمين بهذه القضايا، من بناء آلاف من المستوطنات، وكذلك في تعذيب إخواننا الأسرى وعلى رأسهم الأسير سامر العيساوي نسأل الله أن يفرج كربه وأن يخلصه من العدو الصهيوني الذي كاد أن يموت بسبب إضرابه واعتصامه.

وكان فضيلته قد بدأ خطبته الأولى متحدثا أهمية التغيير في الأنفس والأرواح والعقول والسلوك، وتحدث عن الخطوة الثانية التي تقتضيها عملية الإصلاح وتقتضيها عملية صلاح الفرد والأمة والمجتمع، وهذه الخطوة الثانية هي عملية الإصلاح لكل ما فسد في حياة الإنسان، والإصلاح هو أهم مطلب بعد العقيدة الصحيحة من مطالب وغايات وأهداف الرسائل السماوية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى للبشرية للإصلاح، بل كان الإصلاح دائما شعار الأنبياء كما عبر عن ذلك سيدنا شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وقد كان سيدنا شعيب- وهو من العرب- رسولا لإصلاح السلوك والمعاملات، ولذلك كان يصنف أنه أتى لإصلاح المعاملات والجانب الاقتصادي، حيث كان قومه في مدين قد عاثوا في الأرض فسادا، وقاموا بالغش والتطفيف، وعدم مراعاة المكاييل والموازين، وعدم حفظ الأمانات، وغير ذلك مما تقتضيه المعاملات في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية. لذلك بدأ الله سبحانه وتعالى في سورة هود (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ). وسيدنا شعيب انطلق للإصلاح من منطلقين أساسيين: الأولى هي قاعدة العقيدة لإصلاح الداخل والثانية هي قاعدة الشريعة لإصلاح الخارج والمعاملات وغيرها. فركز سيدنا شعيب على جانب العقيدة بحيث ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى أساساً، لأن ما يحدث من الغش ومن تنقيص الميزان والتطفيف في حقيقتها لا تعالج إلا من خلال عقيدة قوية قويمة مؤثرة في النفوس.

من هنا تسمى الأزمة المالية التي ما زال العالم يعاني منها بأنها أزمة الأخلاق التي ترتبت عليها الأزمة الاقتصادية.

وعبر سيدنا شعيب بـ(مالكم من إله) أي ما لكم من معبود وخالق ورازق ومقدر الأشياء، فالأشياء الذي أنتم تعملونها من أجل الغنى أو لأجل المال غير صحيح وأن الرزق بيد الله وأن الإنسان قد قدر له ما كان وما يكون.

فإذا رُبط الإنسان بهذه العقيدة الصحيحة حينئذ لا يكون جشعا ولا طمعاً ولا يكون بحيث لا يشبع أبدا، وإنما يتوكل على الله سبحانه وتعالى دائماً، ويقتنع بما آتاه الله قليلاً كان أو كثيرا. وهذه المعالجة الأساسية التي ما زال العالم اليوم على رغم تقدمها وعلى الرغم ما وصل إليه من التقنيات في أشد الحاجة إلى هذه الجوانب القيمية والعقدية والأخلاقية.

 وبعدما حاول شعيب ربطهم بالله سبحانه وتعالى وأن يكون إيمانهم بالله على سبيل الحقيقة، والتوكل الحقيقي على الله، حينئذ ربطهم بمستقبل آخر على الإنسان أن يعمل له كما يعمل لدنياه، وهو مستقبل اليوم الآخر الذي يبدأ بعد الموت وينتهي بعد ذلك إما إلى الجنة أو إلى النار، وهي مسافة زمنية طويلة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان مربوطا بهذين الجانبين، حينئذ إن كان مؤمنا حقا مؤمنا بهذين الأمرين بالمبدأ والمنتهى، فلا يستطيع أن يعمل الغش ولا الخيانة ولا أي عمل سيئ من جانب المعاملات وفي غيرها، لأنك تعلم إذا آذيت شخصاً أو أكلت أموال الناس بالباطل وفعلت الفواحش ما ظهر منها وما بطن فلك مصير محتوم وأنك تموت، وفي القبر أول ما تحاسب هي هذه الأموال التي جمعتها ولن تذهب معك ولن تكون معك وإنما تبقى بأيدي الناس، وبالتالي لن تنفعك هذه الأموال إلا إذا ما قدمتها لمستقبلك في القبر، وما بعد القبر من الحشر، إلى أن ينتهي بالإنسان إما أن يكون في الجنة أو في السعير.

 الذي يعمل المنكر يغفل عن الأمرين، يغفل عن المبدأ الخالق ويغفل من المنتهى القبر، فكيف يستطيع أن يرتكب المنكر وهو يمكن بعد لحظة أو دقيقة يموت وأن الله سيحاسبه مرتين

 ، مرة في القبر، إن نجا يتحول القبر إلى روضة من رياض الجنة وإن كان عليه المشاكل فيتحول القبر إلى حفرة من حفر النيران.

 الناس اليوم مشاكلهم في الاثنين في عدم إيمانهم القوي بالله بأنه الخالق والرازق وأن الله، وهو الخالق، أعطى للإنسان ضمانا برزقه وأن رزقه يصله إليه كما ذكره الله في سورة الذاريات.

 إن التركيز على تقوية الجانب الإيماني هو السبيل الوحيد لإصلاح الإنسان من الداخل، وبه يصلح من الخارج، لأن الخارج تعبير عن الداخل، ولذلك لو خشع قلب الإنسان لخشع جوارحه، ولو ارتبط قلب الإنسان بالله سبحانه وتعالى ارتباطا حقيقيا لارتبط الجوارح بالله سبحانه وتعالى، حتى إذا غفل غفلة أو سها سهوة فسرعان ما يعود إلى الله سبحانه وتعالى عن هذا الخطأ أو النسيان.

الجانب الثاني الذي انطلق منه سيدنا شعيب، وهو امتداد لمنهج الإسلام، هو الشريعة، والمقصود بالشريعة هنا معالجة الجوانب العملية وسلوكيات الإنسان وتصرفات الإنسان وتعامله مع الناس. هذا التعامل ضبطته الشريعة تماماً، ولا نجد من حركات الإنسان أو تصرفاته إلا بيّن الله لنا حكمه، هل هو حلال أم حرام أم مندوب إلى آخره، وبينه إما بالنص لاسيَّما في مجال العبادات، أو من طريق الاستنباط أو القياس، الذي يقوم به العلماء الربانيون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة الراشدة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والشريعة في جانبها التعاملي ركزت على أن الدين الحقيقي هو المعاملة وأن مقياس قرب وبعد الإنسان من الله تعالى والجنة هو السلوكيات، وهذا ما ورد في أحاديث كثيرة. وأن أقربهم إلى الله وإلى الجنة الذين يتحلون بالأخلاق الفاضلة الطيبة، وأن أبعدهم إلى الله وأقربهم إلى النار الذين لا يتحلون بالأخلاق الفاضلة، وهذا هو المعيار الحقيقي للإنسان، وإذا أردت أن تقيس نفسك وأن تزن نفسك وزنا حقيقيا، وكم أنت قريب من الله أو بعيد منه، وكم أنت قريب ومن الجنة أو بعيد منه فانظر إلى سلوكياتك وتصرفاتك.

 (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالاتباع والعمل والسلوك والأخلاق الفاضلة والقيم السامية هي المعايير الحقيقية لوزن الإنسان، وما العبادات إلا غاية وهي وسيلة لتأثير على سلوكيات الإنسان (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) وكذلك الصيام (لعلكم تتقون) والتقوى هي هذا الجانب العقدي الذي يجعل قلبك مرتبطا بالله، وتعلم بأن الله يراك في كل تصرفاتك (وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

إذا كان التغيير حقيقيا في الأنفس وفي الداخل بسبب العقيدة الصحيحة فإن آثار هذا التغيير تظهر في الإصلاح، فإذا أردت التغيير والسير على منهج الأنبياء والرسل وتريد أن تصلح فلا بد أن يتجسد إيمانك وعقيدتك بهذه القوة، وتعمل بأمر الله، وتعلم أن الرزق مربوط بأمر الله، وكذلك في الإيمان بالله في قضايا الخوف، وقضايا مظلمة الناس، وإذا وجدت خللا في هذا المجال فعليك بالإصلاح، وأول شيء من عملية الإصلاح لا بد أن تبدأ من إصلاح في النفس، وأن تعالج الأمور السيئة بما يضادها من أخلاق طيبة، وأن النفس الإنسانية إذا تركت وشأنها ولم يتدخل الشيطان في توجيهها فإنها تحب الخير لأن النفس الإنسانية مفطورة على الحنيفية السمحاء (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

 علينا أيضاً أن نذكر أنفسنا صباحا ومساء بتقوى الله كما كان يفعل عمر وكان يطلب من الناس أن تذكره بالله من بعد العشاء بـ(اتق الله يا عمر في ليلك) وفي الصباح بعد صلاة الفحر بـ(اتق الله يا عمر في نهارك)، وكانت هاتان النصيحتان ملازمتين لعمر من الغير وبأمره من المؤمنين وذلك ليحاسب نفسه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).