ظهرت في عصرنا الحاضر وسائل جديدة في كل مجالات الحياة، ونحن فعلا أمام ثورات علمية وتقنية في عالم الاتصالات والمواصلات، تجاوزت كل الثورات السابقة في عالم الصناعة، ونحوها.
ويبدو أن ثورة التقنيات المتطورة في عالم الاتصالات الإنترنيت، وفيس بوك، وتويتر، والموبايل ساعدت كثيرا في تفجير ثورات في عالم السياسة، وساهمت في التجميع والتنظيم، والتحريك والتوجيه كما رأينا في ثورة تونس المبدعة، وبشكل أكبر في ثورة مصر العظيمة، التي كانت مدرسة فعلا في الحفاظ على الأموال العامة، والخاصة، والأخلاق والقيم السامية في التعامل مع الآخرين، والسلوكيات، حيث لم تشهد ساحة التحرير ـ المليئة بمئات الآلاف طوال عدة أسابيع، بل بالملايين في بعض الأيام ـ مشكلة أخلاقية من التحرش الجنسي، أو مشكلة مالية من السرقات، والنهب، ونحوهما، كما تبين أن بعض ما حدث في بداية الثورة كان من صنع فلول بعض الأجهزة الأمنية والشرطة للإساءة إلى الثورة.
والخلاصة أن الثورة كانت ثورة سلمية نظيفة طاهرة أعطت صورة حضارية طيبة للشعب المصري إلى العالم أجمع.
وهنا يرد سؤال ملح هل هذه الثورات مشروعة، أو ممنوعة ومحظورة ؟
للإجابة عن ذلك نقوم أولا بالتعريف بالمظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات، ثم نذكر آراء المعاصرين وأدلتهم مع المناقشة والترجيح.
(1) المظاهرات:
لغة جمع مظاهرة من ظاهر فلانا بمعنى: عاونه، ويُقال: تظاهروا أي تعاونوا، ولها معان أخرى.
أما التظاهر بمعنى: تجمع مجموعة للإعلان عن رضاهم أو سخطهم عن أمر يهمهم، فهو معنى حديث أقره مجمع اللغة العربية، ولا يخرج عن أصل معناه الدال على الظهور والمكاشفة، وعلى التعاون بين البعض.
وقد ورد في القرآن الكريم لفظ «ظهر» ومشتقاته (59) مرة بمعان متعددة، منها قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقوله تعالى: (..وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)، فالتظاهر في هذه الآيات هو التعاون، وأن هذا التظاهر يستعمل للتعاون على الشر، كما يستعمل في التظاهر على الخير، بل إننا نفهم من سياق الآيات التي وردت فيها كلمة ظاهروا أو تظاهرا الإظهار بالتعاون الملح لتحقيق هدف معين.
(2) الاعتصامات:
لغة: جمع اعتصام مِن عصم بمعنى: لجأ، و تمسك، وحفظ، ووفى، ومنع، واعتصم به أي: امتنع به، ولجأ ، وقد جاء في المعجم المعجم الوسيط: ومنه اعتصام الطلبة ونحوهم بمعهدهم: لا يعملون ولا يخرجون حتى يُجابوا إلى ما طلبوا .
وقد تكرر لفظ عصم ومشتقاته في القرآن الكريم (13) بمعنى الإمساك، والاستمساك، والتمسك بالشيء، والحماية والوقاية.
ويقصد بالاعتصامات في عصرنا الحاضر: قيام مجموعة من الناس بالامتناع عن أداء الوظيفة، أو الأعمال؛ لإظهار رفضهم عملا معينا، أو مطالبتهم بشيء معين، حتى تتحقق مطالبهم.
(3) الاحتجاجات:
لغة: جمع احتجاج فيقال: احتجّ عليه: أقام عليه الحجة، والحُجّة هي الدليل والبرهان، والحج هو القصد، وأحد أركان الإسلام الخمسة، وله معان أخرى.
ويطلق الاحتجاج في العصور المتأخرة على الاستنكار، والمعارضة.
وقد تكرر لفظ الحج، وحاجّ ومشتقاته في القرآن الكريم (33) مرة بلفظ (حجّ)، و(الحج)، و(حاجّ) ومنها قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيــــمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي جادلتم، ومن هنا فالمعنى المعاصر له أصــــل في اللغة العربية، واستعمالات القرآن الكريم ـ كما رأينا ـ.
والخلاصة أن ما ذكر هو وسائل جماعية، أو جماهيرية للتعبير عن الرضا، أو السخط عن تصرفات الدولة رئاسة ووزراء ومسؤولين أو الشركات والمؤسسات الخاصة.
آراء المعاصرين في المظاهرات ونحوها:
فقد ذكرنا بإيجاز التعريف بالمظاهرات ونحوها فوجدناها وسائل جماهيرية جديدة للتعبير عن الرضا، أو السخط عن تصرفات الدولة، أو الحزب، أو الشركة، أو نحوها.
ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المظاهرات السلمية مشروعة في الإسلام ؟.
آراء المعاصرين:
اختلف المعاصرون في هذه المسألة ـ من حيث المبدأ والجملة ـ على رأيين:
الرأي الأول: المنع والحظر.
ذهب جماعة من المعاصرين معظمهم من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، منهم: الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، والدكتور صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ صالح بن علي بن غصون، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية، وذهب كذلك الشيخ الألباني رحمه الله إلى حرمة المظاهرات ضد الحكومات في عالمنا الإسلامي.
ملحوظة:
ومن الإنصاف أن أبين بأن فتوى العلامة الشيخ ابن باز، وفتوى العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، كانتا في أعقاب مظاهرات حجاج إيرانيين أثناء مناسك الحج في العام 1412هـ، وبالتالي فإن تنزيلهما على المظاهرات التي حدثت في تونس، أو في مصر يكون غير دقيق في نظري، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن الظروف والملابسات والوسائل والغايات والمقاصد التي أحاطت بفتواهما السابقة غير متطابقة تماما مع الظروف والملابسات والأحوال والمقاصد والوسائل التي أحاطت بالمظاهرات الأخيرة. كذلك نُبين من باب الإنصاف: أن فتوى هيئة كبار العلماء خصصت الحرمة بالمملكة العربية السعودية؛ حيث ذكرت أن أولياء أمورها ملتزمون بأحكام الشريعة والحفاظ على الهوية الإسلامية، حيث قالت: (وبما أن المملكة العربية السعودية قائمة على الكتاب والسنة، والبيعة، ولزوم الجماعة والطاعة فإن الإصلاح والنصيحة فيها لا تكون بالمظاهرات والوسائل التي تثير الفتن وتفرق الجماعة…… والهيئة إذ تؤكد على حرمة المظاهرات في هذه البلاد فإن الأسلوب الشرعي الذي يحقق المصلحة ولا يكون معه مفسدة هو المناصحة….. ).
وقال الدكتور ناصر العمر: المظاهرات في السعودية محرمة بسبب المفاسد، مضيفا: (نرى عدم صلاحية تطبيق المظاهرات في كل البلدان، وذلك لاختلاف كل بلد عن غيره ).