الراية – الدوحة
عبّر فضيلة د. علي محيي الدين القره داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن حزنه لما آل إليه حال الأمة من تفرّق وتمزّق، قائلاً: تفرّقت الأمة فوصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن من تشرذم وضعف وأصبح العرب والمسلمون بدلًا من أن يذهبوا إلى الشرق والغرب دعاة فاتحين، فإنهم باتوا الآن يذهبون بحثًا عن جنة الغرب، مضحين بأرواحهم في سبيل ذلك.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بجامع السيدة عائشة رضي الله عنها بفريج كليب إنه بسبب التفرّق والتمزق الذي نعاني منه تكالبت علينا الأعداء كما تتكالب الأكلة على قصعتها، كما في الحديث الشريف، وليس ذلك لقلة عددنا.
وأضاف: ها هم يلعبون بنا كما يشاؤون مرة أمريكا تدخل ديارنا كما في أفغانستان والعراق وغيرها ومرة يأتي الروس فيدخلون سوريا.
وتابع: الكل يدخل بلادنا مدّعين أنهم يحاربون الإرهاب، ونحن نعلم أن قيادة هذه الجماعات الإرهابية المتطرّفة مخترقة، وأن هذه الجماعات إنما هي صناعة أجنبية وليست صناعة إسلامية.
وتحسّر فضيلته على ما نجح الصهاينة في تحقيقه قائلاً: اليوم تمكّن الصهاينة من تحقيق التقسيم الزماني للمسجد الأقصى وهم يدخلون يوميًا إلى باحات المسجد الشريف، بينما أخواتنا المرابطات يحمين ويدافعن عن المسجد بأجسامهن وأعراضهن، متسائلاً أين الأمة؟ وما الذي حدث لها حتى عجزت أن تعقد قمة لهذه القضية الأساسية أو حتى لغيرها، كما هو الحال في القضايا الخاصة بكل من سورية والعراق واليمن؟
وأكد الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أننا نحتاج إلى العودة إلى الصراط المستقيم، صراط الأنبياء والعزة والكرامة، محذرًا من أننا إذا لم نعالج أنفسنا فلن يُعالجنا أو يساعدنا أحد.
دعاء الفاتحة
وكان فضيلته قد بدأ خطبته بإيضاح مكانة سورة الفاتحة وتفسير بعض آياتها قائلاً: لقد فرض الله سبحانه وتعالى على كل مؤمن ومؤمنة حينما يصلي الصلوات الخمس أو غيرها من الصلوات أن يقرأ سورة الفاتحة، وهذه السورة العظيمة إنما هي دعاء عظيم، بل هي بمثابة توجيه إلهي للمؤمن لأن يلتزم بمقتضى دعائه، ويكون طلبه هذا يوميًا عشرات المرات حجة عليه في الدنيا والآخرة.
وذكر أن الدعاء العظيم الذي تتضمّنه هذه السورة العظيمة المفروضة على كل من يصلي، ولا سيما إذا كان منفردًا، هو أن يقول في دعائه الملح بعد الحمد لله “اهدنا الصراط المستقيم”.
وأشار إلى أن هذا الدعاء لا يجوز أن نمر عليه مر الكرام، فهو طلب مكرّر يوميًا من الله، وأن الله استجاب دعاءك من ناحية، ومن ناحية أخرى يبيّن لك مقتضى ما تطلبه من الدعاء، وكأن مَثلُ ذلك – ولله المثل الأعلى – أن يأتي شخص إليك فيطلب منك حاجة وأنت تعلّمه الطريقة الصحيحة للوصول إلى حاجته، ثم لا يلتزم به، وحينئذ فإن الشخص الذي طلبت منه قد استجاب بقدر ما يقتضيه هذا الطلب، والله أمرنا بأن ندعو، نحن ندعو بأن يهدينا رب العالمين، وأن يرينا، ويرشدنا ويبيّن لنا، أما الوصول إلى النتيجة فهو مرتبط بالتزامك بهذا المعنى.
مفهوم الهداية
وأوضح فضيلته أن كلمة الهداية في القرآن الكريم تطلق على معنيين، المعنى الأول: إضاءة الطريق، الهداية، الإرشاد، البيان، التوضيح الذي يقتضيه ما يصل إليه الإنسان من الطرق والأسباب والوسائل، توصلك إلى الغاية، ثم بعد ذلك يأتي المعنى الثاني: وهو الوصول إلى النتيجة، وهو إرضاء الله، والجنة، والنجاة من عذاب القبر، والدخول إلى الجنة، والنيل بهذا المقام الكريم، والجنة الفردوس، أو أي جنة من جنات الله تعالى، تلك هي غاية هذه القضية، وهذه الغاية مرتبطة بسنن الله التي تقتضي بأن تلتزم بهذه المعلومات والأسباب والطرق التي بيّنها الله سبحانه وتعالى لك في كتابه الكريم وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم “اهدنا الصراط المستقيم”، رب العالمين لم يترك حتى في هذه الآية دون بيان هذا الطريق، وإنما بيّنه من خلال صور مجسّدة، تطبيقية، عملية، طبقها الأنبياء والصالحون حتى لا يقول أحد لا نستطيع أن نكون مثل الأنبياء، والله بيّن طريق الذين أنعم الله عليهم في سورة أخرى وفي آية أخرى “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما”، إذًا طريق الذين أنعم الله عليهم طريق واضح، وليس طريقًا صعبًا أو خاصًا بالأنبياء، وإنما طريق جميع الصالحين الذين لا يمكن أن ينال الإنسان رضاء الله إلا بالعمل الصالح.
ما هو الصراط ؟
وخاطب المسلم بقوله: أنت تدعو إلى أن يوفقك الله لهذا الصراط، وقد بيّن الله هذا الصراط، وهو طاعة الله وطاعة رسوله على المنهج الوسط المعتدل، دون إفراط، ولا تفريط، دون تشدّد ولا غلو، ولا التملّص من الواجبات، وبيّن الله وعلّمنا كيفية الدعاء حينما ندعو حتى لا يكون التعريف تجريبيًا مثاليًا وإنما يكون واقعيًا، فلم يقل رب العالمين إن الصراط المستقيم هو صراط الإيمان والعقيدة وإلى آخره، وإنما بيّن هذا الصراط من خلال الأشخاص، والواقع، والواقع يشمل مجموعة على قمتهم، الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون، أربع درجات، ولا يمكن أن يكون الإنسان غير قادر على إحدى هذه الدرجات الثلاث، وهذا دليل على أهمية القدوة والعمل، وعلى أن التجريد وحده لا يكفي، وأن ادعاء الإيمان ليس له قيمة إن لم يكن له واقع عملي، وليس الإيمان بالتمنِّي ولكن ما وقَر في القلب وصدّقه العمل، وصدّقته السلوكيات والأخلاقيات، والتعامل الحقيقي، والإحسان، وهذا الذي يريده الله في دعائه وأنت في كل صلاة تطلب من الله، ولكن لا تستجيب لما أراك الله سبحانه وتعالى، ثم إن الله حينما بيّن الطريق بكلمة “الذين” وهذه الكلمة لها عدة فوائد مهمة ويستفاد منها أولاً: أن هذا الصراط ليس صراط شخص واحد وإنما صراط الملايين بل مليارات من البشر من سيدنا آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذا الصراط يبقى لا سيما للصدّيقين والشهداء والصالحين، هذا صراط عام، وصراط الذين يريد الله أن يكرمهم في الدنيا بنعمة الإيمان وأن يكرمهم في الآخرة بنعمة رضاه والجنان.
معنى (الذين)
وذكر أن الفائدة الثانية: أن كلمة “الذين” للمعهود أي أن هؤلاء معهودون ومعروفون في المجتمع يشار إليهم، كما أشار إلى ذلك بعض الآثار بأن يكون المسلمون في المجتمع كالشامة البيضاء على البقرة السوداء، أو كغرّة الفرس على جبينه، وكأن الإنسان حينما ينظر إلى الفرس لا ينظر إلا إلى هذا الجمال، هكذا المسلم حينما يراه الناس كأنهم في نظامهم وجمالهم وسلوكياتهم وتصرّفاتهم كأنهم شامة بيضاء وغرّة على جبين الفرس وما أجمل هذه الغرة. “أنعمت عليهم” بيّن الله في هذه الكلمة الجميلة بأن كل ما أمر الله به وكل ما نهى الله عنه فهو نعمة وهو خير لك، الإيمان والعقيدة تحميك من القلق والاضطراب وتعطيك الخيرات الكثيرة في الدنيا قبل الآخرة، والسلوكيات الجميلة تجعلك لا تحس بما يسمى بتأنيب الضمير، إنما صالح مع الجميع، تحس بالسعادة وانشراح الصدر لأنك ما آذيت أحدًا ولا حيواناً ولا حشرة إلا بالحق.