الدوحة – العرب

بعد أن عالج الشيخ علي محيي الدين القره داغي مواضيع الأمن الشامل في الإسلام، وتأصيل العمل الإنساني، ينتقل إلى موضوع مهم، هو: الإجارة في الإسلام.

يعرفنا الشيخ علي محيي الدين القرة داغي على التأجير الوقتي أو المشاركة الزمنية (Time Share) فيقول: ظهر في العقود الأخيرة عقد جديد يقوم على تأجير غرفة أو شقة في فندق أو منتجع لمدة محددة مثل أسبوع من السنة أو الشهر، لقاء مبلغ معلوم ولمدة 20 عاماً، حيث يستفيد أصحاب هذه الفنادق والمنتجعات من التسويق وملء الفراغ، كما أن المستأجرين يستفيدون من انخفاض القيمة قياساً على التأجير العادي بالإضافة إلى أنه ينشط القطاع السياحي على مدار العام، ولهذا العقد صور متنوعة فلا يجوز في نظري إعطاء حكم عام بالجواز أو المنع، وإنما لا بد من تحديد الصورة أولاً ثم الحكم عليها:

الصورة الأولى: تأجير حصة معينة من عقار (مثل أسبوع) في تأريخ محدد مثل الأسبوع الأول من شهر يوليو من كل عام لقاء مبلغ معلوم، وذلك لمدة 20 عاماً (مثلاً) فهذا جائز لعدم وجود غرر مؤثر وجهالة.

الصورة الثانية: مثل الصورة الأولى نفسها، ولكن يتفقان على أن تكون المنفعة مرتبطة بحياة المستأجر وحينئذ تعود إلى المالك المؤجر، فهذه غير جائزة شرعاً، إذا كانت الأجرة مطلقة، لوجود الغرر المنهي عنه، أما إذا اتفقا على ربط الأجرة بالشهر سنوياً، بأن يقول: أجرتك هذه الحصة ما دمت حياً، على مبلغ سنوي مقدر بألف دولار مثلاً، فهذا جائز لعدم الغرر.

الصورة الثالثة: مثل الصورة الأولى، ولكن يتفقان على أن تكون المنفعة مؤبدة أي أنها بعد وفاة المستأجر تنتقل إلى الورثة، فهذه جائزة إذا كانت الأجرة محددة بالسنة وليست مطلقة.

الصورة الرابعة: أن يتم تأجير حصة مشاعة بمواصفات معينة ترفع الجهالة والغرر المؤثر وبمبلغ محدد سنوياً، أو لعدة سنوات محددة، فهذا أيضاً جائز، لأنه يدخل في عقد الإجارة الموصوفة في الذمة.

والخلاصة أن هذا النظام له مزاياه وعيوبه، وأن المطلوب شرعاً هو ألا يكون فيه غش وتدليس ونصب واحتيال، ولا غرر ولا تغرير، وأن يكون العقد وارداً على منفعة مباحة موجودة فعلاً أو موصوفة في الذمة توجد وتتحقق عند الوقت المحدد للانتفاع بها، وأن تكون الأجرة أيضاً معلومة.

هذا بإيجاز شديد.

أركان عقد الإجارة وشروطهاالعرب – الدوحة

بعد أن عالج الشيخ علي محيي الدين القره داغي مواضيع الأمن الشامل في الإسلام، وتأصيل العمل الإنساني، ينتقل إلى موضوع مهم، هو: الإجارة في الإسلام.

يشرح فضيلة الشيخ علي محيي الدين القرة داغي، علاقة الإجارة بالعقود الأخرى فيقول:

1 – العلاقة مع البيع:

فهي تشبه البيع من حيث إن فيها نقلاً لملكية المنفعة إلى الآخر، لكنها تختلف عنه كثيراً، لأن نقل الملكية في الإجارة خاص بالمنفعة فقط، وأنه نقل مؤقت بزمن محدد، في حين أن البيع نقل لملكية المنفعة والرقبة معاً، أو للرقبة فقط على سبيل التأبيد، ومن جانب آخر فإن البيع لا يجوز إلا أن يكون منجزاً، في حين أن الإجارة تقبل الإضافة حتى التعليق، كما سيأتي.

ومن جانب ثالث، فإن البيع استيفاء المبيع دفعة واحدة، في حين أن الإجارة تقتضي استيفاء المنفعة خلال الزمن المحدد. وأيضاً، إنه ليس هناك تلازم بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز وبين ما تجوز إجارته وما لا تجوز، فالإنسان الحرّ لا يباع، ولكنه يؤجر، والطعام لا يؤجر، ولكنه يباع.

2 – مع الإعارة: تتفق الإجارة مع الإعارة في أن كلاً منهما تمليك منفعة، ولكنها تختلف معها في أن الإجارة تمليك بعوض، وهي بدون عوض، وفرق البعض بينهما فرقاً آخر، وهو أن الإعارة ليست تمليكاً، وإنما هي إباحة، ويترتب على ذلك آثار كثيرة.

3 – مع الجعالة: تتفق الإجارة معها في أن الجعالة عقد قائم على المنفعة أيضاً، ولكنها تختلف عنها في أن الجعالة عقد على منفعة مظنون حصولها، وأن الجاعل لا ينتفع بجزء من عمل العامل، وإنما بتمام العمل، إضافة إلى أن الجعالة عقد غير لازم قبل إتمام العمل.

4 – مع الاستصناع: تتفق الإجارة مع الاستصناع في أنه أيضاً وارد على منفعة، ولكنه يختلف معها في أنه عقد قائم على العمل والعين الموصوفة في الذمة، إضافة إلى أن دائرة الإجارة أوسع بكثير منه، حيث الإجارة تكون للأعيان والأشخاص.

والخلاصة: إن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وإن التشابه بينه وبين غيره لا يرقى إلى درجة أن تنصهر الإجارة في بوتقة أي عقد آخر.

تقسيمات عقد الإجارة

للإجارة تقسيمات باعتبارات مختلفة، حيث تتفرع على كل تقسيم عدة أنواع نكتفي هنا بما يأتي: التقسيم الأول، باعتبار المحل (المعقود عليه)، حيث تقسم إلى:

1 – إجارة على الأعيان (أي غير الإنسان).

2 – إجارة الأشخاص (أو الأعمال).

3 – والإجارة على الشخص نوعان:

1– إجارة خاصة (أي الأجير الخاص)، وهو ما كان يحصر عمله لخدمة المؤجر، بحيث لا يجوز له أن يعمل سوى عمله، وهذا قد يحدد له زمن في كل يوم كما هو الحال بالنسبة للموظفين، والعمال المستأجرين للعمل في منشأة خاصة أو لشخص، وقد لا يحدد له زمن يومي مثل الخدم الذين يقع عليهم العقد لخدمة مخدوميهم لسنة أو أكثر أو أقل، لكن دون تحديد زمن يومي، فيكون كل أوقاتهم بحسب العرف لهم.

2– إجارة مشتركة (الأجير المشترك) وهو الذي لا يكون عمله خاصاً بأحد، بل يتقبل الأعمال في ذمته من غير واحد. قال الكاساني: «وهو الذي يعمل لعامة الناس». وقسَّم بعض الفقهاء الحنفية الإجارة إلى قسمين:

1 – إجارة على المنافع.

2 – إجارة على الأعمال.

التقسيم الثاني، باعتبار كون العقد صحيحاً أم لا، فالإجارة بهذا الاعتبار تقسم عند الجمهور إلى قسمين وهما:

1 – إجارة صحيحة وهي التي توافرت فيها الأركان والشروط، وانعدمت فيها الموانع والمفسدات، بحيث يترتب عليها أثرها الشرعي من حق الانتفاع ونحو ذلك.

2 – إجارة باطلة وفاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط معاً، أو أحدهما، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات.

وعند الحنفية تقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 – إجارة صحيحة، مثل تعريف الجمهور.

2 – إجارة باطلة، وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط، أو الأركان فقط، فالمعيار في الباطل عند الحنفية هو ما كان الخلل في الركن، وهذا النوع لا يترتب عليه أي أثر شرعي من آثار العقد.

3 – إجارة فاسدة، وهي التي لم تتوافر فيها الشروط، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات من الشروط، فالمعيار للفاسد عند الحنفية هو ما كان الخلل في الشرط، وهذا قد تترتب عليه بعض الآثار في بعض الأحوال.

وهذا التقسيم له آثاره وأحكامه، نتحدث عنها عند الحديث عن أحكام الإجارة بإذن الله.

التقسيم الثالث، باعتبار كون المحل معيناً، أو موصوفاً في الذمة، والإجارة بهذا الاعتبار سواء كانت إجارة الأعيان أم الأشخاص نوعان، إما إجارة على منفعة معينة، أو موصوفة في الذمة، وسيأتي لهذين النوعين المزيد من التفصيل، وهما محل البحث في هذا الكتاب.

1 – إجارة واقعة على منفعة عين معينة، أو شخص معين، مثل أجرتك هذه الدار المعينة بكذا، أو يقول الشخص: أجرتك نفسي بكذا، أو يقول مدير شركة الخدمات مثلاً أجرتك هذا الشخص المشاهد لعمل كذا بكذا.

2 – إجارة واقعة على منفعة عين موصوفة في الذمة مثل أن يقول الرجل: أجرتك سيارة مواصفاتها كذا وكذا بكذا، أو على منفعة شخص غير معين موصوف في الذمة، بأن يقول مدير شركة الخدمات مثلاً: أجرتك لعمل كذا شخصاً مواصفاته ومؤهلاته وخبراته كذا بكذا.

جاء في الروضة: «والإجارة قسمان: واردة على العين كمن استأجر دابة بعينها ليركبها، أو يحمل عليها، أو شخصاً بعينه لخياطة ثوب، وواردة على الذمة كمن استأجر دابة موصوفة للركوب، أو الحمل، أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط فقبل، وفي قوله: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا وجهان، أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين للإضافة إلى المخاطب.. والثاني إجارة الذمة، وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: «استأجرتك عينك، أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا».

التقسيم الرابع، باعتبار اشتراط الزمن أو عدمه، فالإجارة بهذا الاعتبار على ثلاثة أضرب:

1 – أن يعقدها على مدة، فهذا هو الأصل.

2 – أن يعقدها على عمل معلوم كبناء حائط، وخياطة قميص.

3 – أن يربطها بالعمل والمدة معاً، وهذا محل خلاف كبير.

وقد وضع ابن قدامة لذلك ضابطاً وهو أنه: «إذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه الوجهان، لأن له عملاً تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة. ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل».;

للإجارة ثلاثة أركان وهي:

– العاقدان (المؤجر والمستأجر).

– والصيغة (الإيجاب والقبول).

– والمعقود عليه (الأجرة والمنفعة).

والحنفية حصروا أركانها في الإيجاب والقبول.

فبالنسبة للعاقدين يشترط فيهما: العقل بلا خلاف، والبلوغ على خلاف وتفصيل ليس هذا محله. وخلاصته: أن الجمهور أجازوا للصغير المميز إنشاء عقد الإجارة بإذن وليه أو وصيه على تفصيل بينهم خلافاً للشافعية والظاهرية وأن الراجح قول الجمهور، وكذلك اشترط الجمهور عدم إكراه أحد العاقدين واشترط الحنفية للنفاذ ألا يكون العاقد مرتداً، ولكن من له الولاية على المحجور عليه ينفذ تصرفه عليه بالتأجير، أو على ماله لوجود الإنابة من الشرع، وإذا بلغ الصبي قبل انتهاء المدة ففي لزوم العقد رأيان:

الأول: يبقى لازماً، لأنه عقد لازم عقد بحق الولاية فلا يبطل.

والثاني: له الحق في إلغائه.

ويترتب على عقد الإجارة -إذا تحققت أركانه وشروطه وانتفت موانعه- مجموعة من الآثار والالتزامات تتوزع على العاقدين، وبالتالي يجب على كل واحد منهما تنفيذ ما يخصه سيتم التفصيل فيها في آثار عقد الإجارة كما سيأتي.

الركن الثاني- الصيغة:

المراد بالصيغة هنا كل ما يعبر بصورة واضحة عن إرادتي المؤجر والمستأجر في التعاقد، ولكن بعض فقهائنا السابقين ركزوا على الألفاظ، فقد عرف صاحب اللباب صيغة الإجارة فقال: “هي لفظ، أو ما يقوم مقامه، يدل على تمليك المنفعة بعوض”، وقد أطال الفقهاء النفس فيها ولاسيما في الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة مثل لفظ الإجارة والكراء، حيث تنعقد بهما دون خلاف، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه خلاف.

فجمهور الفقهاء على أن الإجارة تنعقد بأي لفظ دال على المقصود بالإجارة، لأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك تنعقد بـ (وهبت منافعها لك شهرياً بألف درهم)، و (بعتها لك لمدة شهر بمئة درهم)، أو نحو ذلك مما يفهم منه بوضوح حسب العرف السائد معنى الإجارة ومقصدها. وكذلك تنعقد بالكتابة، وبالإشارة المفهومة بالنسبة للأخرس بالاتفاق، ولغيره على الراجح، وكذلك تنعقد بالبذل والمعاطاة عند الجمهور، مثل لو دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه، ففعل، ولم يتكلم أحدهما بشيء، فالإجارة صحيحة ما دام ذلك معروفاً بالعرف، ويكون له أجرة المثل عند البعض، أما لو تكلم أحدهما فذكر الصيغة الدالة على المطلوب وسكت الآخر فإن العقد صحيح، ويكون له المسمى.

ثم إن الصيغة يعبر عنها بالإيجاب والقبول، فالإيجاب عند الجمهور هو التعبير الصادر عن المؤجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الأول، والقبول هو التعبير الصادر عن المستأجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الثاني.;