الدوحة – بوابة الشرق

الحلقة : الثامنة

إن قول يوسف بعد سجود أبويه وإخوانه للعرش: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يحمل بين طياته مجموعة من المخففات، بل والمرطبات لنفوس إخوانه، بل والموجبات للشكر على ضوء ما يأتي:

أ- بنى يوسف خطابه على النهاية السعيدة التي وصل إليها دون التطرق إلى الماضي المؤلم أي أن المهم هو هذه الخاتمة السعيدة، والخير الذي حصل له ولهم جميعاً . ولم يدخل في بيان ما أصابه من مصائب وسجن وعذاب، فلم يعش مع الماضي والمعاناة .

ب- أسند كل ما حدث له إلى تأويل رؤياه التي جعلها الله حقاً فقال: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) وهذا يعني أن ذلك بتدبير الله له حتى يصل إلى هذه المنزلة.

ج- ذكر النتائج الخيرة، والإحسان والنعم فقال: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) كما أنه لم يتطرق إلى الماضي، وبدأ بنعمة خروجه من السجن، والتمكين من الأرض.

د- أسند كل ما حدث إلى نزغ الشيطان، فقال: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي )

هـ- قدم نفسه بالنسبة لنزغ الشيطان قبل إخوانه، مع أنه كان صغيراً، ولم يكن له بدّ فيه، وإنما من بيان أن الجميع معرض لهذا النزغ من الشيطان .

و- استعمل لفظ ( إخوتي ) بالإضافة إلى نفسه مما يشعر بحبّ دافق، وعاطفة جياشة نحوهم .

هذا هو الأنموذج العظيم القدوة لكل الأقليات المسلمة في العالم أجمع، أن تكون مثل يوسف عليه السلام، في تعامله مع وطنه الذي استقر فيه، ومع وطنه الأول وأهله الذين أساءوا إليه.

فوالله لو فعلنا مثل ما فعل يوسف لدخل معظم العالم في الإسلام، كما دخلت شعوب شرق آسيا من خلال أخلاق التجار ودعوتهم .

ثانياً – الصحابة المهاجرون إلى الحبشة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:

فقد ذكر أصحاب السير أن قريشاً حينما زادت من الأذى والتعذيب والتضييق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة، أذن لبعضهم بالهجرة، فقد جاء في تأريخ ابن كثير: ( قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء‏.‏ قال لهم‏:‏ ‏‏‏(‏ لو خرجتم إلى أرض الحبشة‏؟‏ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي – أرض صدق – حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه‏)‏‏ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم‏.‏ فكانت أول هجرة في الإسلام، فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ) .‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ( ثم خرج جعفر بن أبي طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبد الله بن جعفر، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة ) ‏.‏

وقد روى الإمام أحمد بسنده عن ابن مسعود قال: ( بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحو من ثمانين رجلاً، فيهم‏:‏ عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى فأتوا النجاشي‏.‏ وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه، وعن شماله ثم قالا له‏:‏ إن نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا‏.‏ قال‏:‏ فأين هم‏؟‏ قالا‏:‏ في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم فقال جعفر‏:‏ أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلَّم ولم يسجد‏.‏ فقالوا له‏:‏ مالك لا تسجد للملك‏؟‏ قال‏:‏ إنا لا نسجد إلا لله عز وجل‏.‏ قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ إن الله بعث إلينا رسولاً، ثم أمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة‏.‏

قال عمرو‏:‏ فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم‏.‏ قال‏:‏ فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه‏؟‏ قال‏:‏ نقول كما قال الله‏:‏ هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد‏.‏ قال‏:‏ فرفع عوداً من الأرض ثم قال‏:‏ يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأنه الذي نجد في الإنجيل‏.‏ وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه‏.‏ وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجَّل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدراً‏.‏ وزعم‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته‏.‏قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن‏.‏ وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إن لم يكن ذكره مدرجاً من بعض الرواة والله أعلم‏) .