يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (أهم الدروس المستفادة من الأزمة المالية العالمية حسبما ذكر الاقتصاديون في الغرب) وعرضنا أسس انهيار الرأسمالية في الأزمة العالمية، وفى هذه الحلقة يستكمل فضيلته الحديث عن شهادات بعض المفكرين والساسة وعلماء الاقتصاد في الغرب:
1- «موريس آلي» الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد كتب كتابا بعنوان «الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق: من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد»، ذكر فيه شرطين من أجل إعادة التوازن للأسواق والاقتصاد، وهما:
الشرط الأول أن يكون معدل الضريبة في حدود دنيا لا تتجاوز 2% في المائة.
الشرط الثاني: وأن يكون معدل سعر الفائدة في حدود الصفر أي بلا ربا.
وهذا ما يتطابق وينسجم تماما مع مبادئ الاقتصاد الإسلامي.
2- بوفيس فانسون Beaufils Vincent رئيس تحرير مجلة تحديات (Challenges) كتب افتتاحية تحت عنوان: البابا أو القرآن تزامنا مع زيارة البابا الأخيرة لفرنسا، تساءل فيها عن لا أخلاقية الرأسمالية. وركز في ذلك على دور المسيحية كديانة والكنيسة الكاتولبكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة.
3- رولان لاسكين (Roland Laskine) رئيس تحرير صحيفة لوجورنال دوفينانس (Le Journal De Finances) كتب افتتاحية تحت عنوان: هل تأهلت وول ستريت (Wall Street) (بورصة نيويورك) لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية ؟ نذكر خلاصته في النقاط الآتية:
1.إن المسكنات مثل ضخ الأموال تسكن المرض فترة قصيرة أو طويلة، لكن المرض سيعود، لأن أسبابه لم تعالج.
2.أن ما وقع في بعض دول العالم ابتداءً من المكسيك في سنة 1995م ثم انتهاءً بجنوب شرقي آسيا في سنة 1997م، وروسيا 1998م، والآن 2008م، يؤكد أن الأزمات ستعود ما لم تعالج من جذورها
3.لهذا نرحب بالدعوة التي أطلقت لإعادة صياغة النظام المصرفي الغربي.
4- الفاتيكان: حيث جاء في مجلتها: نحن بحاجة إلى إرجاع القيم الأخلاقية، وأن الاقتصاد الإسلامي قادر على المساهمة في إعادة تشكيل قواعد النظام المالي الغربي. فقد كتبت مجلة «لي أوسيرفاتوري رومانو» مقالاً في 4 مارس 2009 بشأن المصرفية الإسلامية، وهي المجلة شبه الرسمية التي تمثل البابا، وتصدر بصفة أسبوعية، وتغطي نشاطات البابا، وتنشر فيها المقالات التي يحررها كبار رجال الكنيسة الكاثوليكية، بالإضافة إلى الوثائق الرسمية بعد صدورها من الفاتيكان، نذكر ترجمته لأهميته: (من الضروري ان نتذكر كيف كان الرافعون للواء الشريعة وطلاب علم المالية الإسلامية يعبرون عن امتعاضهم في أواخر القرن التاسع عشر من تغلغل الرأسمالية في البلدان الإسلامية. وقد نشرت العديد من الفتاوى التي تنص على ان الخدمات المعتمدة على الفوائد المصرفية التي كانت تقدمها بنوك «المستعمر» غير متوافقة مع أحكام الشريعة. ولكن لم يكن في البلدان الإسلامية عندئذٍ غير تلك البنوك وكان المسلمون مضطرين إلى التعامل معها مع انها تمثل في نظرهم مؤسسات غير مقبولة يعتمد وجودها على تقديم خدمات محرمة من وجهة نظر القانون الإسلامي كما انها تهدد النسيج الاقتصادي والاجتماعي. ومنذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حتى منتصف السبعينيات عكف الاقتصاديون والمختصون بالمالية بالإضافة إلى علماء الشريعة وكذا جموع المثقفين على دراسة إمكانية إلغاء الفائدة من الاقتصاد وتأسيس مؤسسات مالية قادرة على إيجاد بدائل للنظام الربوي تكون متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية. بمعنى آخر منع دفع الفوائد الربوية ثمناً للتأجيل الزمني. مدركين، بالإضافة إلى ذلك، الحاجة إلى نظام اقتصادي جديد يتضمن حلولاً تمكن من تطبيق الواجبات الدينية الأساسية على المسلم مثل إخراج الزكاة الواجبة، وهي دفع نسبة محددة من أموال الفرد لمساعدة الفقراء، وتيسير أداء فريضة الحج إلى مكة. جاءت المحاولات الأولى لإيجاد اقتصاد إسلامي في الخمسينيات الميلادية في كوالالمبور ماليزيا وفي صعيد مصر وكان الغرض من التجربة الماليزية تمويل وتسهيل الحج على المسلمين وقد كانت مدعومة من الحكومة من أوجه متعددة منها إشرافها على عملية جمع الأموال واستثمارها للتأكد من أنها توظف بالطريقة الإسلامية. إن العنصر الأساس في عمل البنوك الإسلامية هو الامتناع عن التعامل بالفائدة سواء استخدام الفوائد في القروض أو كجزء من عمل ونشاطات البنك الأخرى، ولهذا كانت هناك حاجة لإيجاد بدائل تكون قادرة على توليد عائد ربحي (غير أساس الفوائد) على رأس المال والاستثمار يكون متوافقاً مع القواعد الأخلاقية الإسلامية. ان الاقتصاد الإسلامي، على خلاف اقتصاد السوق الرأسمالي، يرتكز إلى مبادئ الدين الإسلامي ويهدف إلى جعل أعمال المسلمين منسجمة مع الأوامر الشرعية، (القانون الإسلامي) التي ينظم حياة المسلمين. لقد كان المثقفون المسلمون وكذا الحركيون والمنخرطون في مجال الإنتاج يعتقدون دائماً بحرمة الربا، ويقصد به الفوائد التي يفرضها مقرضو النقود، وهم أيضاً يمقتون معاملات الميسر والغرر والتي تتضمن المقامرة، واستخدام المعلومات ذات الخصوصية في المتاجرة في الأسواق.
ان النقود عند المسلمين ليست بحد ذاتها سلعة يمكن استخدامها لتولد الربح بنفسها.
وبناء عليه فقد سعى المسلمون في مجال المالية إلى تجنب صناديق الاستثمار البديلة وأسهم الامتياز لأنها جميعاً تؤدي إلى تولد النقود من النقود بصفة صورية.
ان النقود وسيلة وأداة لتحقيق الإنتاج الحقيقي، هذا مطبق في السندات الإسلامية التي تسمى الصكوك. ان الصكوك مربوطة دائماً بالاستثمار الحقيقي، لتمول، على سبيل المثال، نفقات شق طريق أو إنشاء مبنى ولا تستخدم أبداً لغرض المقامرة وما شابه ذلك.
هذا المبدأ مستمد من منع الشريعة للمحرمات والتي تتضمن النشاطات غير الصحيحة من الناحية الأخلاقية أو التي نص القرآن على منعها مثل إنتاج الأسلحة المحرمة والمتاجرة بها أو المتاجرة بالخمور والدخان، ودور المجون والقمار.
ولقد تمخض عن عملية البحث عن نموذج مقبول من الناحية الشرعية وموافق للمتطلبات الأخلاقية، تحالف تجمعه المقاصد والأغراض بين علماء التمويل وعلماء الشريعة الذين انخرطوا في العمل من أجل بعث وتجديد نظام مالي إسلامي قوي.
وهذا التحالف العجيب ليس له مثيل في الاقتصادات المعاصرة ولكنه أدى إلى تدعيم قاعدة قوية لنظام اقتصادي جديد.
ان من أهم الفروق بين المنهج التقليدي في التمويل والنظام المالي الإسلامي هو تكاتف الجهود على مستوى المجتمع ككل والذي يتبلور عندئذٍ في مفهوم «الأمة»، وهي جماعة المسلمين والتي تعد نفسها ذات هوية واحدة تتنفس وتفكر بشكل موحد، وهذه هي روح الإسلام.
ان الاتجاه الفردي غريب على الإسلام، وقد كان غير معهود في الثقافة القبلية، ويتجذر الإسلام في القيم القبلية التقليدية مثل الشعور القوي بالانتماء، والالتزام الصارم بمساعدة الرفيق عند الحاجة، كل ذلك مع قبول تام بسلطة القيادات الدينية. تلك هي القيم التي زرعها العلماء المسلمون في النظام الاقتصادي الإسلامي، وهي القيم التي مكنت عرب البادية من معايشة بيئة قاسية في الصحراء. وإذا كانت الأمة هي القلب، فإن التكافل بين أفرادها هو ضربات القلب في الاقتصاد الإسلامي.
نحن نعتقد ان النظام المالي الإسلامي قادر على المساهمة في إعادة تشكيل قواعد النظام المالي الغربي، ونحن نرى اننا نواجه أزمة مالية، لا تقتصر على مسألة شح السيولة لكنها تعاني من أزمة انهيار الثقة بالنظام ذاته. يحتاج النظام المصرفي العالمي إلى أدوات تمكن من إرجاع القيم الأخلاقية إلى مركز الاهتمام مرة أخرى، أدوات تمكن من تعزيز السيولة وكذلك إعادة بناء سمعة نموذج نظام رأسمالي ثبت فشله.
يريد الناس استثمارات آمنة، ولذلك فإنهم يهرعون اليوم إلى شراء السندات الصادرة من الحكومة لكن العائد يتدهور بسرعة ويقترب من الصفر. يمكن للبنوك الغربية ان تتبنى نظام الحماية الموجود في الصكوك، أو تقوم بإصدار سندات على صفة صكوك لتنفيذ أغراض وأهداف تنشيط الاقتصاد. يمكن استخدام الصكوك مثلاً لإنقاذ صناعة السيارات المتدهورة أو لتمويل الدورة الأولمبية القادمة في لندن.
وإذا قارنا الأزمة الحالية مع أزمة سنة 1929م لوجدنا ان حجماً هائلاً من السيولة الفائضة موجود لدينا اليوم ولكنه مصاب بالجمود، ولا بد من إرجاعه إلى النشاط وليس أفضل لتحقيق هذه المهمة من إصدار الصكوك. وكذلك الحال بالنسبة للمبادئ الأخلاقية التي تمثل قاعدة للتمويل الإسلامي فإنها قادرة على جعل البنوك قريبة من عملائها، وقريبة إلى الروح الحقيقية للمؤسسة الخدمية، والتي يجب أن تكون السمة الأساسية للعمل البنكي).
معالم المشروع الإسلامي الاقتصادي لحلَ هذه الأزمة
لا نعتقد أن الحل يكمن في علاج العرض، بل الحل الناجح هو الحل الجذري القائم على:
1- إعادة النظر في هياكل النظام الاقتصادي العالمي مالياً ونقدياً ومصرفياً، وإصلاحها إصلاحاً جذرياً وفق برنامج شاكل للإصلاح.
2-القيام بترتيب السياسات، والوسائل والاجراءات الناجعة لتحقيق هذا الاصلاح.
3-إصلاح، وتطوير المنظمات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
4-إحلال سياسة نقدية تقوم على الإنتاج والنمو والربح بدل الفائدة، وتصحيح وظائف النقود لتقوم بدورها باعتبارها وسيلة للتداول، وليست سلعة.
5- سياسة مالية محكمة قادرة على ضبط السوق والمؤسسات المالية ضبطاً متوازناً.
6- تحقيق التكافل بين البشر جميعاً من خلال التوزيع العادل، كما شرحناه.
7-تصحيح العلاقات بين المتعاقدين، بحيث تقوم في المشاركات على أن الغنم بالغرم، وفي العقود الناقلة للملكية لا بدّ أن تقوم على التملك والتمليك الحقيقيين، وفي عقود التبرع أن تقوم على أساس التبرع دون استغلالها للاسترباح والفائدة.
8-تفعيل قواعد الحلال والحرام في المعاملات. أما المشروع المتكامل فهو يتكون من عنصرين:
العنصر الأول: موقف الاسلام من أسباب هذه الأزمة واحداً واحداً.
والعنصر الثاني: يتمثل في تقدير مشروع متكامل بآلياته عن الاقتصاد الاسلامي، وحلوله العملية للركود، والتضخم، والبطالة، ومعالجة الأزمات.