الدوحة – الراية:
أكّد فضيلة الشيخ د.علي محيي الدين القره داغي أن ما يحدث في العراق يندى له الجبين، حيث تخفي وسائل الإعلام ما يجري اليوم من عمليات تطهير طائفي منظّم في بعقوبة وبغداد، والبصرة قبل ذلك، مشيرًا إلى أن المسألة لا تقتصر فقط على عملية الإعدامات لأناس كرام ضحوا بأرواح أبنائهم وإخوانهم، حيث يطلق سراح الفاسدين ليمارسوا كل أنواع الفساد، في ظل صمت دولي تجاه ما يحدث رغم أن ما يجري يجب وقفه لأنه انتهاج طائفي.
ودعا لوقوف الأمة العربية والإسلامية مع كل من سوريا ومصر والعراق وبنجلاديش وميانمار، لافتًا إلى حاجة السوريين إلى ما يفطرون عليه في المخيّمات التي لجأوا إليها.
وانتقد قتل المئات في بنجلاديش والحكم على أحد العلماء بالسجن، حيث قُتل منهم في فترة من الفترات المئات وهم معتصمون سلميون، وقبل أيام حكموا بالسجن الأبدي على عالم رباني مُفسّر للقرآن الكريم وعمره يزيد على 90 سنة، ناهيك عما يحدث في ميانمار.
وتساءل: السؤال الذي نوجهه إلى أنفسنا هل نستطيع أن نحوّل هذا الصيام إلى طاقة للتغيير، وأن نحوّل هذه الطاقة إلى الحركة والعمل في داخل سلوكياتنا، هذا الذي نسأله الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن تتغيّر أنفسهم نحو الأحسن وأن يكون قد كتب الله لهم العتق من النيران.
وقال خلال خطبة الجمعة أمس بجامع السيد عائشة: إن مما يتعلق بإحساس القلب شعورنا بما يعيشه الإخوة المضطهدون في سوريا، وهم كرام الناس، وهم مشرّدون في المخيّمات والحدود لا يجدون حتى ما يفطرون به، أما في الداخل فالوضع أسوأ، فكيف لا نقوم بواجبنا وهم لهم حق علينا، حق الإسلام، والقرابة والرحم، وهم آووا العراقيين حينما كانوا مشرّدين وقلوبهم كانت تسع لهؤلاء جميعًا، لذلك يجب علينا أن نحس بحالتهم، وأن نجود بكل ما نملك، وجمعية قطر الخيرية اليوم تقوم بجمع الخيرات لسوريا، وجمعية قطر الخيرية، أنا أسميها سفير قطر للخير، وإيصال الخيرات للمحتاجين ولا نزكي على الله أحدًا.
وأكّد فضيلته أنه لا يجوز أبدًا لا عرفًا ولا مصلحة ولا قانونًا ولا وطنية أن ننسى إخواننا في مصر على أقل التقدير بالدعاء، لأن هؤلاء قد ظلموا ظلمًا كبيرًا، فانظر إلى حالتهم على البلاط والشوارع، ولا بدّ لهم أن يقوموا، لأن الإنسان إذا ظلم فله أن ينتصر، ولا يجوز أن يسكت عن الظلم، ولا أن يركن إلى الظلم، وهذا الخروج بإجماع العلماء اليوم، خروج غير شرعي على حاكم منتخب شرعي، وليست القضية فلانًا أو علانًا أو هذا الحزب أو ذاك وإنما قضية الحق والباطل، وقضية عودة الفلول والفاسدين إلى السلطة، حيث أطلق سراح معظم الفاسدين، والركّع السجّد قُتلوا، واستشهدوا، وآخرون يُقادون إلى السجون.
وأشار إلى أن أكثر فرحًا بحال مصر اليوم أعداء الأمة وبعض الدول التي تلعب على الوجهين، ولأول مرّة في التاريخ تتفق الدول المعروفة بالتحفّظ واليمين مع اليسار وجماعات المُتحللين، مطالبًا في الوقت ذاته أن ندعو للجيش العربي الوحيد الذي بقي في المنطقة أمام إسرائيل، وهو جيش مصر، رغم محاولات لتوريطه.
وكان فضيلته قد بدأ خطبته قائلاً: إن التجارب والوقائع التي شهدتها الأمم السابقة، وكذلك النصوص القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، كل ذلك يدل على أن الأمة لا يمكن أن ترتقي إلى مصاف من الرقي والحضارة والتقدّم والوحدة إلا إذا تغيّرت أنفسها نحو الأحسن، هذا الإنسان ما هو إلا عبارة عن الداخل، الذي يشمل نفسه وعقله وقلبه وروحه، وإلا فبدون هذا الداخل المحرّك، والداخل المؤثر، يصبح كأنه جثة هامدة، أو كأنه كما قال القرآن الكريم (كأنهم خشب مسندة). فالإنسان بما في داخله، والتغيير إنما يكون من خلال هذا الداخل، وبدون هذا التغيير نحو الأحسن لن يتحقق لنا شيء يُذكر، وهذا ما نصّ عليه القرآن الكريم، بالإضافة إلى التجارب التاريخية، حيث يقول: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، لا يغيّر ما بقوم من عذاب وفرقة، ومن تخلّف، إلى آخر المصائب والمشاكل، فكل هذه الأمور إن الله لا يغيّرها حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وهذا التغيير جذري شامل للفرد والجمع، لأن هذه الكلمة هنا وردت بصيغة يفهم منها مقالة الجمع بالجمع، تدل على أن الفرد واحدًا واحدًا مهم، كما أن الجمع كذلك من خلال السلطة والإدارة مهم.
وأضاف: لأجل هذا التغيير، أنزل الله سبحانه وتعالى الكتب، وأرسل الرسل، وكانت مهمتهم الأساسية تغيير هذا الإنسان إلى إنسان خيّر، من إنسان متخلف إلى إنسان متحضّر، من إنسان جاهل إلى إنسان عالم، من إنسان يعيش في عالم الشرك والنفاق والخرافات إلى شخصية قويّة واثقة بالله سبحانه وتعالى موحّدة له، وتبتعد عن كل ما لا يليق بكرامة هذا الإنسان، الذي نفخ الله سبحانه وتعالى فيه الروح وخلقه بيده المباركة. وجعل الله سبحانه وتعالى لهذا التغيير وسائل مهمّة، ومن أهم الوسائل: القرآن الكريم، بل هي وسيلة أساسية للتغيير، والقرآن بما فيه من الحجج والقصص والعبر ومن الأدلة والبراهين، ومن التربية، وهذا ما بيّنه القرآن الكريم في آيات الصيام: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس)، أي أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وبالتالي هذا القرآن يغيّر هذا الإنسان، ويأخذ بالإنسان نحو طريق مستقيم، ويسلك به نحو الصراط المستقيم، ويغيّر ما بداخله من نفسه وقلبه وعقله وروحه.
وشدّد على أن المهمّة الأساسية للرسل جميعًا كانت التغيير، وهذا ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم 23 سنة، ما عدا غزوات لا تأخذ من وقت الرسول الكثير، رغم أننا حينما نقرأ سيرته الشريفة يركز أهل السير على الغزوات والفتوحات، وهي في حدود 27 غزوة صغيرة وكبيرة، وهي لا تمثل في عمر الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير، وإنما عمره المبارك من يوم بعثته في مكة كان تركيزه الأساسي للتغيير، وحتى الغزوات والجهاد كانت لإزالة العقبات والطواغيت حتى يستطيع الإنسان أن يحدّث الفرد حتى يُغيره نحو الأحسن. فالوسيلة الأساسية هي القناعة التي تتحقق بالقرآن الكريم، وكذلك بجهود الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بجهود المصلحين والمربين والعلماء الربانيين والمُرشدين الحقيقيين، لذلك لما عرض على النبي الحكم، أن يملك قريشًا، لم يقبله صلى الله عليه وسلم، لأن الأمة لا تُقاد من الفوق، وإنما من الداخل وبالقناعة، ولا يمكن مهما حاولنا بالقيادة والريادة فلا يكون لهم دور إلا إذا نزلت إلى مستوى القلوب والتربية، حتى يكون ما في داخل الإنسان عفيفة طاهرة سليمة قويّة عزيزة، حينئذ يصبح هذا الإنسان فردًا أساسيًا قادرًا على التغيير.
وقال فضيلته: لذلك القرآن كله من سورة الفاتحة إلى الناس يركز على هذا التغيير وحتى حينما يتطرّق إلى القتال يتحدّث عنه كدفاع (وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا). وشهر الصيام أيضًا من أهم وسائل هذا التغيير، ولذلك يعتبر أطول عبادات من حيث الزمن، شهر كامل يمتدّ على مدى 29 أو 30 يومًا، يدخل الإنسان في هذه التجربة ويغيّر عاداته من كل شيء، من الأكل والشرب والمُعاشرة مما حرمه الله سبحانه وتعالى في نهار رمضان بينما هو مُباح في غيره. وهذا التغيير الذي يحسّ به الإنسان يخرجه من الروتينية إلى شيء آخر، ولا يمكن أن يحدث التغيير إلا إذا أحسّ الإنسان بخروج من الروتينيات والملل إلى الجديّة، وكل صائم جديّ في أكله وشربه، مهما كان جائعًا أو عطشانَ في حدود 15 ساعة، والصائم محافظ على نفسه، وهو في غاية من التنبّه حتى تكون منتبهًا ومتنبهًا للتغيير، ولتغيير القلب المريض بأمراض الشرك والخرافات والنفاق والكراهية والبغضاء والحسد والحقد إلى عالم آخر، وتروض نفسك وقلبك بهذه الوسائل إلى أن تصبح نفسك ربانية، لوّامة تلومك على فعل المنكرات، بل تلومك على التقصير في أداء الواجبات والعبادات، حتى توصلك إلى رضاء الله، ولا ترتاح، كما قال علماؤنا، إلا إذا دخل إحدى رجليه الجنة، حينئذ يرتاح الإنسان ثم تتحوّل هذه النفس إلى نفس مطمئنة راضية.
وذكر أن القلب يطهر من هذه الأنجاس والأرجاس سواء ما كان يتعلق بحق الله أو بحقوق العباد من البغض والحسد وغير ذلك. وهكذا أيضًا للعقول فلا بدّ أن تتغيّر من عقول كاسدة إلى عقول جادّة مُبدعة مُنتجة تريد أن تخدم دينها ونفسها وتخدم أمتها وتحسّ بالمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى. هذا هو المطلوب الأساسي وهو التقوى التي تساعد النفس على التغيير، لأن التقوى هي مراقبة الله سبحانه وتعالى فلا ترضى بالحسن وإنما تتوق إلى الأحسن حتى تنال رضاء الله سبحانه وتعالى.
وأكّد أنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توفي، فإن سنته قائمة، والقرآن الكريم قائم، والعلماء الربانيين قائمون، وموجودون وهم ورثة الأنبياء، وبالتالي ليس لنا عذر أبدًا بأننا نتخلف أو أننا لا نغيّر كما غيّر الصحابة أنفسهم تغييرًا جذريًا. استطاع الرسول أن ينشئ من أمة متخلفة جاهلة أمة متعلمة متفوّقة، ومن أمة مختلفة وممزّقة أمة واحدة، إلى أن يشهد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، تغيّرت الأنفس تمامًا، وأصبحت الأنفس حساسة مثل حساسية الصائم نحو قضايا الأكل والشرب، ولذلك فحينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه الأنصار للعمرة وقد كان الأنصار في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة لأجل صنمين لهما وهما أساف ونائلة، وحينما جاؤوا وطاف بهم الرسول الكعبة المشرفة وصلوا في مقام إبراهيم وشربوا ماء زمزم أمرهم بأن يسعوا بين الصفا والمروة، فقال الأنصار نحن كنا نسعى بين الصفا والمروة من أجل هذين الصنمين، فكيف نحن الآن وقد هدانا الله إلى الإسلام، فنزل قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)، وكلمة (لا جناح) أي لا حرج حتى تزيل هذه الآية الحساسية، هذه الحساسية التي قد فقدناها اليوم فنحن صائمون ولكن هناك غيبة وكراهية وبغض وظلم، فليس هذا من الصيام نكون حسّاسين للمُباحات ولا نكون حسّاسين للمحرّمات.
وقال فضيلته: من أهم حكم الصيام هي التغيير، وإذا أردنا، وصدقت النيّات، وبدأنا على التركيز في تغيير ما عندنا، وجلسنا مع أنفسنا يوميًا، وأرشدنا التغييرات التي تحصل خلال هذا الشهر إلى قلب سليم يحبّ الناس، فقد بشّر النبي صحابيًا بدويًا بالجنة في ثلاثة مقامات وليس إلا لأنه ليس في قلبه كراهية لأي أحد، وحينما ينام يعفو عن كل من آذاه من أجل الحصول على رضا ربه (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) نريد أن نخرج من رمضان وقد خرج من قلوبنا كل الذنوب والعصيان والحقد والحسد والكراهية، ولا تكون العبادات مجرّد طقوس وأشكال وعادات بل نغيّر هذه العبادات إلى مؤثرات.