الدوحة – العرب

بعد أن عالج الشيخ علي محيي الدين القره داغي مواضيع الأمن الشامل في الإسلام، وتأصيل العمل الإنساني، ينتقل إلى موضوع مهم، هو: الإجارة في الإسلام.

فيقول: ورد لفظ الأجر ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي 108 مرات، منها الآيات الواردة في سورة القصص بخصوص قصة سيدنا موسى في مدين وأخذ أجرة سقيه، ثم جعله أجرته مهراً لزوجته حيث يقول الله تعالى: “فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ واللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل”.

 فهذه الآيات تضمنت صورة عقد متكاملة للإيجار كما تضمنت ضوابط وآداباً للإجارة ونحوها، فالعقد قد تم بين العاقدين وهما: سيدنا موسى عليه السلام والشيخ الكبير، على أساس أن المعقود عليه هو العمل في الرعي ونحوه لمدة 8 سنوات أو 10 سنوات في مقابل إنكاح ابنته ومهرها، والصيغة تتمثل في إيجاب الشيخ الكبير، وقبول موسى عليه السلام.

 ويستفاد منها أن الإيجاب (أو القبول) يمكن أن يتحقق بفعل المضارع ما دامت القرائن تدل على الإنشاء دون الوعد، كما أن القبول قد يتم بأي صيغة تدل عليه، مثل: “ذلك بيني وبينك” دون الالتزام بلفظ مخصوص، وهذا هو ما يسمى بمبدأ الرضائية في العقود.

 كما يستفاد منها أن مدة عقد الإجارة يمكن أن تكون محددة بوقت واحد، ويمكن أن تكون على الخيار بين وقتين، حيث تم العقد في الإيجاب على أساس 8 سنوات، أو 10، وكان قبول موسى عليه السلام أيضاً غير محدد، حيث قال: “ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ”.

 ويقاس على ذلك ما إذا كان الخيار بين أكثر من وقتين، ما دام ذلك لا يؤدي إلى النزاع.

 ودلت هذه الآيات الكريمة على جواز الجمع بين عقدين في صفقة واحدة، وهما النكاح والأجرة والربط بينهما، قال أبو بكر ابن العربي: “في هذا اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على 4 أقوال:

الأول: يكره ابتداء، فإن وقع مضى.

الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز.

والثالث: قال ابن الماجشون: إن بقي من القيمة ربع دينار جاز، وإلا فلا. قال أبو بكر: “والصحيح جوازه وعليه تدل الآية”.

وتضمنت الآيات إرشادات في غاية من الأهمية لاختيار الأجير، والوكيل، والموظف، والمدير ونحوهم، حيث قالت: “إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ”، فهاتان الصفتان: القوة والأمانة إذا تحققتا فيمن يوكل عليه العمل فإن النجاح يكون متحققاً بإذن الله تعالى.

 فالقوة تعني القوة البدنية والفكرية والعقدية وتدخل فيها الخبرة والمعرفة والفطنة والكياسة، والمهارة، وأما الأمانة فتعني الإخلاص والغيرة والإحساس بالمسؤولية، ووجود رقابة داخلية تمنع الشخص من الخيانة والاعتداء ومن التفريط والتقصير، والمقصود أن يتوافر في الشخص الإخلاص والاختصاص وهما جامع الخير كله.

 واستعمل القرآن الكريم الأجور بدل المهور في أكثر من آية، فقال تعالى: “فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ”، كما استعملها في أجور المرضعات فقال تعالى: “فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ”، كما استعمل القرآن الكريم الأجر والأجور بمعنى الثواب في الآخرة في آيات كثيرة، وبمعنى الأجر الدنيوي في مقابل العمل كما في قوله تعالى في قصة موسى والخضر: “لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً”.;