الدوحة – العرب
يستكمل فضيلة الشيخ علي محيي الدين القرة داغي حديثه عن الإجارة، بتفصيل مشروعيتها، فيقول: الإجارة مشروعة، بل مطلوبة في الإسلام كما دلّت على ذلك الآيات والأحاديث التي ذكرناها.
وقد أجمعت الأمة على جوازها، ولكن يحكى عن أبي بكر عبدالرحمن بن الأصم أنه لا يجيزها، بناء على أن الإجارة بيع المنافع، وهي معدومة في الحال، والمعدوم لا يجوز بيعه، وأنها غرر، وكلامه هذا متعارض مع النصوص السابقة ومع الإجماع فلا يعتد به، قال ابن قدامة: «وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار، وسار في الأمصار، والعبرة أيضاً دالة عليها، فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع»، وقال الكاساني: «إنَّ الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير، فلا يعبأ بخلافه، إذ هو خلاف الإجماع».
وذكر ابن رشد أن ابن عُليّة مع الأصم في هذا الرأي بناء على شبهة واهية، وهي: أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة، والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة فكان ذلك غرراً، ومِن بَيْع ما لم يخلق.
ولكن الرد عليها جلِيّ وهو أن طبيعة عقد الإجارة تختلف عن البيع؛ لأنها قائمة على تحقيق المنفعة التي تستوفى في المستقبل، كما هو الحال في السَّلَم، حيث هو عقد قائم على تسليم شيء في المستقبل.
مقاصد الشريعة في الإجارة:
إذا نظرنا إلى الإجارة وما ورد فيها من الآيات والأحاديث، ثم الاجتهادات نظرة مقاصدية يتبين لنا ما يأتي:
أولاً: أن الإجارة تتعلق بالمال الذي هو من المقاصد الخمسة أو الستة الأساسية أو الثمانية، وبناءً على ذلك فإن مقاصد الشريعة في إجازة عقد الإجارة تكمن فيما يأتي:
1 – تحقيق تبادل المنافع بين الناس ليساهم في الاستجابة لاحتياجاتهم وتلبية ضرورياتهم المتعلقة بالمنافع وتبادلها في بعض الأحيان، وقد تحقق في الإجارة تبادل المنافع بالأعيان، أو الحقوق.
فالتبادل في المنافع هو من باب الحاجيات من حيث الأصل والمبدأ، ولكنها قد تصبح من باب الضروريات إذا تعينت المنفعة ولم يكن هناك بُدّ للوصول إليها إلاّ عن طريق عقد الإجارة.
2 – المساهمة في التنمية للأفراد والمجتمع والأمة، فعقد الإجارة من العقود المهمة لتحقيق التنمية، ولها دور عظيم في تحقيق الدورة الاقتصادية، والإسراع بها، بل إن معظم احتياجات الأفراد والشركات والحكومات تكمن في المنافع سواء كانت منافع مرتبطة بالأعيان أو الأشخاص، وبالتالي فالعقود المنظمة لها تقوم بدور عظيم.
3 – المساهمة في أداء واجب الاستخلاف الذي كلف الله به الإنسان فقال تعالى : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وأن من مقتضيات الاستخلاف الاستعمار أي تعمير الأرض في ضوء منهج الله تعالى فقال تعالى : (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وقد بين المفسرون، وبخاصة الإمام الجصاص، أن هذه الآية تدل على وجوب التعمير.
ومن هنا فالمقصد الأساس من عقد الإجارة أن يساهم في عمارة الأرض، وهو حقاً إذا استعمل في مجالاته المتنوعة سيكون له تأثير كبير في التعمير، بل إن الإجارة المنتهية بالتمليك ستساهم في إنشاء المصانع وشرائها، ثم تأجيرها إجارة منتهية بالتمليك، كما أن المعلوم أن المنافع مال عند جماهير الفقهاء.
4 – حماية الأموال والحفاظ عليها، وتنميتها من خلال عقود الإجارة، ومن المعلوم أن (المال حفظاً وتنميةً) هو أحد المقاصد الكلية في الإسلام.
5 – رفع الحرج فيما يتعلق بتبادل المنافع.
ثانياً – ربط عقد الإجارة بالقصود المحققة لمقاصد الشريعة، بحيث يكون قصْد العاقدين تحقيق التبادل الحقيقي بين المنافع والأثمان، أو بين المنافع والأشياء وتحقيق التنمية والاستعمار والاستخلاف، وأن لا يتعارض قصدهما مع قصد الشارع، وان لا تكون نيتهما سيئة وذريعة للمحرمات.
فهذا الربط بالقصود والنيّات المعتبرة التي يمكن استكشافها من خلال القرائن مطلوب شرعاً، ويجب الاعتناء بها؛ لأنه يؤدي إلى مراعاة سد الذرائع الحقيقية، ومنع التحايل، وستكون له آثار ايجابية جداً على مستوى الأمة، ويجعل عقد الإجارة بعيداً عن الحيل والصورية والشكلية.
ثالثاً- ربط الإجارة بالمآلات وسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات، ويعنى بالمآلات أن على العاقدين أن يلتزما بأحكام الشريعة حالاً ومآلاً ظاهراً وباطناً وأن يسد كل أبواب المحرمات والشبهات على نفسيهما، وكذلك ربط عقد الإجارة بفتح الذرائع والوسائل المؤدية إلى المصالح المعتبرة.
ولذلك لا يجوز تأجيرها لما يعود بالضرر البيّن على الأمة الإسلامية، فلا يجوز أن يكون التأجير عوناً لفعل المحرمات التي تشمل أيضاً الضرر على الأمة ولو مآلاً، ومن هنا لا يجوز التأجير للمحتلين الصهاينة (ونحوهم) ما داموا يستعملون العين المؤجرة بما يعود بالضرر على أصحاب الأرض أو يكون مآله ضرراً عليهم.;