الدوحة- صحيفة الوطن
دعا فضيلة الشيخ د. علي محيي الدين القره داغي إلى نصرة المسلمين للثورات العربية القائمة، مطالبًا المسلمين جميعًا بنصرتها واعتبر ذلك مسؤولية أمام الله تعالى، وقال إن هذه الثورات مقدمة لسير الأمة في الطريق الصحيح وفي أن يكونوا عبادًا لله يتمتعون بالحرية وربط بين تلك الرؤية وشروط تمكين الأمة الإسلامية في الأرض، مشيرًا إلى أن هذا الاتجاه للحرية سير في الاتجاه الصحيح للوصول بالأمة إلى شاطئ الأمان. وقال في خطبة الجمعة: إذا نظرنا إلى الحضارات السابقة، والتجارب السابقة، وكذلك إلى النصوص الشرعية، لوجدنا أن الحضارات القوية العظيمة، لايمكن أن تبنى بالجهود العادية، وإنما تحتاج إلى جهود متميزة، والى إرادة قوية، وإلى تماسك قوي بين أفراد تلك الأمة، هكذا كانت الحضارات السابقة، كل حضارة حسب نوعيتها، ولذلك رأينا أن الحضارة الإسلامية استطاعت أن تقفز خلال 150 سنة، قفزة رائدة رائعة.
ويقول كثير من المنصفين، حتى من الغربيين، إن هذه القفزة التي قطعها المسلمون خلال 150 سنة، ما كانت باستطاعة الحضارة الرومانية أو الساسانية أن تقطعها بأقل من ألف سنة، لو قسنا الحضارة الإسلامية في القرن الثاني الهجري، مع الحضارة الرومانية أو الساسانية، لوجدنا بينهما فرقًا كبيرًا، فقد تطورت الحضارة الإسلامية بشقيها، الشق التكليفي والعلوم الشرعية، حيث ظهرت العلوم المنظمة للفكر الإسلامي، متمثلة بعلم أصول الفقه، وكذلك بأصول الحديث والتفسير، بالإضافة إلى علوم النحو والصرف، وبقية العلوم اللغوية والبلاغة والبيان والبديع، فقد تطورت العلوم التكليفية التي تخدم الدين مباشرة، أو بواسطة كونها أدوات لتطوير العلوم الشرعية، مثل علوم النحو وعلوم الآلة كما يقولون، وفي المجال الآخر تطورت العلوم الطبيعية والإنسانية والفلسفية والفكرية، تطورًا هائلاً حتى أضاف المسلمون في عالم الفكر، إضافات مبدعة، وتطورت علوم الطب بكل ألوانها وأشكالها من البصريات وعلوم الصناعة والتكنولوجيا، حسب ذلك العصر، تطورًا رهيبًا.
توقف الإبداعات
وأضاف: استطاع المسلمون أن يرتبوا لأنفسهم منهجًا تجريبيًا خاصًا بهم، حتى جعلوه الأساس للتقدم والتطور، وهو المنهج التجريبي، وهذا يعني توجيه العقل إلى مجالاته، ومجالات العقل هي المجالات المحسوسة والمجالات المادية والمجالات التي يستطيع العقل أن يبدع فيها، وقد وصل هذا المنهج المسلمين إلى ما غيره، أو ما يسمى بعالم ما وراء الطبيعة، ومن هنا وجه عقول المسلمين إلى الطبيعة، في حين علماء اليونان وفلاسفتهم والإغريق، وجهوا كل جهودهم إلى ميتافيزيقيا وما وراء الطبيعة، ولم يستطيعوا أن يجنوا الثمار الكثيرة من هذا العلم، بينما اكتفى الإسلام بما بينه الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حول قضايا الغيبيات، وكان فيه الكفاية والكفاية، ثم وجهوا عقولهم نحو الأمور الماديات والكون والفلكيات ونحوها، فنجح المسلمون نجاحًا عظيمًا في هذا المجال، ولكن المسلمين حينما وصلوا إلى هذه المرحلة لم يكونوا ليصلوا بسهولة، وإنما بذلوا الجهود المضنية والعظيمة في هذا المجال، ولكن مع الأسف الشديد لم يستمر المسلمون إلا عدة قرون، حيث توقفت الإبداعات في المجالين في مجال العلوم الشرعية والتكليفية وكذلك في المجالات الأخرى منذ القرن الخامس الهجري أو السادس الهجري، إلا ما ظهر من جهود فردية لم ترق إلى المستوى المطلوب، ومن هنا بدأت التأخر يصيب المسلمين وبدأ الجمود ينتشر بين المسلمين، وفي هذه الأثناء كانت أوروبا تعيش في الظلام الدامس، ولكن أوروبا نهضت لأنها وضعت لنفسها برنامجًا اعتمدت فيه على المنهج التجريبي، وبذلوا جهودًا كبيرًا في إصلاح النظام السياسي والتعليمي وتشجيع الإبداع ومؤسسة الإبداع، فوصلت أوروبا إلى ما وصلت إليه، ومن هنا بين الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن امتحان هذه الأمة وكذلك بقية الأمم ليس في الأقوال، ولا يمكن أن تبنى الحضارات بالأقوال مهما كانت رائدة ومهما كانت رائعة وجميلة، ولا تبنى كذلك بالأفعال العادية، بل ولا بالفعل الحسن، وإنما تبنى الحضارات خاصة على المستوى الكبير ولاسيما في ظل الصراعات الحضارية إذا استطاعت أن تضع لمنهجها برنامجًا قائمًا على ماهو الأحسن في كل شيء وفي كل الأمور، وهذا ما بينه القرآن الكريم في سورة الملك حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا»، فالله سبحانه وتعالى ذكر الملك وهو الكون كله، من حيث ما فيه من خزائن وما فيه من عجائب وكنوز، وذكر كذلك صناعة الحياة وصناعة الموت والأنشطة الإنسانية كلها ثم عقب على ذلك بأن الامتحان أيها الأمة الإسلامية، فيمن يعمل ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهذا تعبير قرآني عظيم جدًا لأنه عبر بكلمة تسمى باللغة العربية بالنكرة، التي هي تدل على النسبية، لأنه لم يقل رب العالمين الأحسن عملا حتى يكون معرفًا وإنما «أحسن عملا» لأن احسن العمل اليوم يختلف عن أحسن العمل الغد واحسن العمل الغد يختلف.
عقلية المسلم
وقال فضيلته: هنا تتطور هذه الأحسنية من يوم إلى يوم وهذا لو عمقنا في هذه الآية الكريمة وفي غيرها من الآيات التي توجب على هذه الأمة على أن يكون جميع تصرفاتها على الأحسن وليس على الحسن، هذه الآيات وغيرها تدل على أن الاسلام يريد أن يصنع داخل الفرد المسلم عقلية ديناميكية متقدمة متطورة تبحث وتسعى دائما نحو الأحسن، ولا ترضى بالحسن أبدًا، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى في آيات أخرى الأحسن في كل شيء «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» ويقول «واتبعوا احسن ما أنزل إليكم من ربكم»، فالله سبحانه ربط الجزاء بالأحسن، وربط الاتباع بالأحسن، وكذلك أمر الإنسان دائمًا أن يتبع الأجود والأحسن، ولذلك علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدخول للمسجد يكون على الأحسن، فنقدم الرجل اليمنى ونقرأ الدعاء المعروف، وكذلك حينما نخرج وكذلك حينما ندخل الحمام، ولما ندخل السوق، ولما ننام حتى يكون ذلك منهج حياة المسلم للبحث عن الأحسن، والغريب أن الغرب اليوم يعيش على هذا الأحسن، فالجيل الرابع الذي طور كل هذه، ثورة الاتصالات والإنترنت قائمة على أحسن السيناريوهات، فأحسن السيناريوهات في الإعلام، وأحسن سيناريوهات في السياسة، وأحسن سيناريوهات في الاقتصاد. وهذا ما بين الله لنا، أن نكون على أحسن الوجه، وفي كل شيء في مظاهرنا وفي شكلياتنا وحقائقنا، فكل ما نستطيع أن نقوم به، يجب أن يكون على أحسن الوجه المتجدد، لذلك رب العالمين لم يكتف بهذا المجال وإنما أيضًا بين ذلك فقال حتى في الصبر «فصبر جميل» أي حتى الصبر يجب ألا يكون عاديًا بل صبرًا جميلاً، والجميل صيغة بمبالغة يدل على افضل الصبر، فهجرنا يجب أن يكون هجرًا جميلاً، فكل شيء في الإسلام يجب أن يكون في احسن الوجه.
وتساءل: لماذا يطلب منا رب العالمين أن نكون الأحسن؟ لأننا أمة الوسط، وأمة الوسط هي امه الشهود، ويجب أن تكون هذه الأمة قادرة على أداء الرسالة وقادرة على واجب الشهادة، وان تكون هذه الأمة متمكنة في الأرض وهذه التمكن لا يتحقق إلا بالأحسنية واستمرار الأحسنية في كل شيء، لأنه لو قامت أمتنا فستقوم أمة الأخلاق وأمة العقيدة وأمة الرحمة للعالمين، بينما الحضارة الأوروبية، على رغم تقدمها هي في الحقيقة أمة مادية، ودائمًا تسعى إلى الجانب المادي على حساب الجانب، لذا ظهرت المشاكل، وأسرفوا في استخدام بعض الجينات على مستوى الحيوانات والنباتات، وأدت إلى ظهور مشاكل من جنون البقر وأنفلونزا الخنازير والطيور، وحتى وصلت هذه الأمراض إلى الخضراوات، بينما لو حكمها الأمة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، أمة الأخلاق والقيم، فلابد أن تكون رحمة للعالمين.
فقه التمكين
وقال: بين الله سبحانه وتعالى أن الأمة المكلفة بالتمكين الكامل «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، أي أن الأرض كلها أو الأرض المقدسة، سواء فسّرنا الأرض المقدسة بفلسطين، أو فسّرناه، وهو الراجح عندي وعند جمهور المفسرين، أن الأرض جميعًا ترثها هذه الأمة، ولكن بهذه الشروط: بأن يكونوا عبادًا لله سبحانه وتعالى، والعبودية لله تقتضي الحرية والكرامة وان لا يخاف من احد، ولا يركع أو يسجد إلا لله، أما الصالحون أي الحاملون للأمانة، الصالحون لأخذ سنن الله سبحانه وتعالى فهؤلاء،هم الذين يستحقون أن يكونوا وارثين لهذه الأرض.
فمن هنا بين الله سبحانه وتعالى، كيف نتمكن من هذه الأرض؟ نتمكن بالعبودية والصلاح وكذلك بمنهج الأحسن عملاً في كل شيء وفي كل التصرفات، فلذلك لما تخلت الأمة الإسلامية عن هذا المنهج، وصلت الأمور إلى ما وصل إليه، فضعفت الأمة، وتفرقت وتمزقت واحتلت أرضها وديارها خلال القرون السابقة، أي منذ ثلاثة قرون والعالم الإسلامي يعاني من مشاكل الاحتلال، ومن مشاكل الاستعمار والاستعباد، ثم من مشاكل الاستبداد والديكتاتورية وما تركه هؤلاء المستعمرون من عملاء، هم في معظم الأحيان، ليقودوا العالم الإسلامي والعالم العربي، لأن المسلمين تخلوا عن العبودية الخالصة لله، ومن التهيئة ليكونوا من الصالحين ولحمل هذه الأمانة التي يقتضي الأخذ بسنن الله وسنن الذين من قبلكم والذي ذكره الله سبحانه في القرآن الكريم التي تخص النصر والهزيمة والحضارة والتقدم وكذلك التجارب السابقة. ولذلك جعل رب العالمين لنا أمرين الكتاب والحكمة، والحكمة: هي كل أمر نافع، أو كل تجربة نافعة، أو كل تطبيق نافع، ومن ثم الأمة لا تستطيع أن تنهض أبدًا لتقوم بدورها كما ينبغي إلا إذا عادت إلى هذه المنهجية منهجية العبودية الخالصة لله والمنهج التجريبي والمنهج القائم على الأحسن في كل شيء والتي تبحث دائما عن الأحسن «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي لله رب العالمين».
البوصلة الصحيحة
وأضاف: «هذا هو المنهج الصحيح عند الله سبحانه وتعالى وإذا عادت الأمة إلى منهجها في ظل هذا الحراك العظيم فإن الأمة إذا استطاعت أن تأخذ بالصورة الصحيحة والبوصلة الصحيحة فستوصلها إلى شاطئ البر والأمان، ولكن نحن لدينا البوصلة ولكننا لانجيد أن نضع في مكانها الصحيح والأخذ بكل ما هو الأحسن لدينها ودنياها، وهذا يرجع إلى التربية والى منهجية المتكامل والإرادة القوية لتنفيذ ما أراده الله سبحانه وتعالى، فكما يجب أن نكون مصلين ساجدين وبنفس المقدار أن نهتم بالتعمير في ظل منهج الله سبحانه وتعالى، والتمكين منها وتقوية الأمة بقوة العلم والاقتصاد فليس هناك قوة بعد الإيمان من قوة العلم لذلك بدأ الله سبحانه وتعالى دستور هذه الأمة وهو القرآن بكلمة اقرأ ولم يبدأ القرآن الكريم بأي عبادة أخرى لأن القراءة والعلم هما مفتاح للعبادة والتمكين وقد مكن الله ادم بالعلم وأسجَدَ له الملائكة بالعلم، فإذا اسجد الله الملائكة لآدم بسبب العلم فإن بقية الكون ليست أشرف من الملائكة، فإنها تخضع لك بالعلم، لعلم الوحي، وكذلك للعلم التجريبي.
الابتعاد عن السنن
وقال في خطبته الثانية: في ظل هذا الابتعاد لهذه الأمة عن المنهج السابق الذي ذكرناه وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه من حالات التخلف وكذلك من حالات الضعف والهوان الذي أصاب هذه الأمة، فحينما كانت هذه الأمة قوية كانت قادرة على حماية نفسها وثرواتها وارضها وديارها بل حماية الغير بل كانت كذلك مهابة والآخرون يقدرون لهذه الأمة قدرها وكرامتها، أما اليوم فتحتاج الأمة إلى المزيد من التفكير فيما وصلت إليه وأنها وصلت إليه سبب هذا الابتعاد لأن سنن الله سبحانه وتعالى لا ترحم وان سنن الله تطبق على الجميع الأقوام والشعوب والأمم والحضارات ومن هنا نرى ما نراه الآن في عالمنا اليوم ويبدو أن الصحوة الإسلامية التي بدأت منذ اكثر من قرن بدأت هذه تؤثر في الشعوب وجعلت الشعوب تحس بهذا الضعف وهذا التخلف ومن هنا ثارت الشعوب ضد كل هذه المصائب وضد هذه المشاكل التي أصابت هذه الأمة بنا اقترفت يداها «ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير».
الله سبحانه وتعالى عفا ولم يحاسبنا عن كثير من أمور وإنما حاسبنا على بعض التخلف وبعض الأمور التي ارتكبناها مخالفة لمنهج الحق ومنهج الله سبحانه وتعالى فثارت هذه الشعوب ضد التخلف بعد التحضر والحضارة ضد التفرق بعد الوحدة وكل مقوماتها بعد الغنى ثارت ضد الفقر بعدما كانت هذه الأمة غنية قادرة على توفير كل متطلبات الحياة الاقتصادية وغيرها اليوم اصبح الفقر في عالمنا الإسلامي مشكلة كبيرة جدا ثارت هذه الشعوب ضد الظلم والطغيان والاستبداد ونحن نتفاءل الخير في هذه الثورات الشعبية لعلها تعيد الأمة إلى منهجها الصحيح، حيث يبدو أن المنهج الصحيح بالحرية المنضبطة وبكرامة الإنسان لينطلق الإنسان من منطلق الحرية إلى الإبداع في كل مجالات الحياة هذه الثورات كلها لأجل هذه المشاكل ولذلك قامت هذه الشعوب بما قامت فعلينا نحن أن ندعم هذه الثورات في كل الأماكن التي قامت فيها وان نحمي كذلك الثورات التي نجحت فيها فمسؤوليتنا أمام الله كبيرة في دعم مصر لتحقق الثورة أهدافها ولدعم تونس لتحقق الثورة أهدافها ولا نترك هذه الثورات وهذا أجل الأمة حكامًا ومحكومين أن يقوم بهذا الواجب وإلا فنكون آثمين ونتحمل المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى فعلى سبيل المثال يجب علينا أن ندعم وأن نقوي وان نبذل كل الجهد لتحقق ثورة مصر نتائجها لخدمة الأمة الإسلامية والعربية من خلال الدعم الاقتصادي والدعم السياسي والغذائي ومن خلال توفير الأموال الكافية وخاصة في هذه المرحلة حتي تقوم بمشروعاتها للبنية التحتية لأن هؤلاء الظلمة أخذوا أموال الشعب كما يظهر الآن الأول بالأول وكذلك في تونس والتي في الحقيقة تعيش على السياحة وبعض الموارد فيجب علينا أن ندعم تونس لتكون قادرة على الوقوف على رجليها وكذلك يجب علينا أن ندعم الثورات الحالية في سوريا ودعم شعبها بالدعاء والقنوت والصلاة وبالاعتصامات بكل الوسائل المتاحة وهكذا الأمر في اليمن وفي ليبيا.