السبب الثاني للتطرف

القهر السياسي وتعذيب الدعاة، والاستبداد، والدكتاتورية التي منعت حرية الآراء والأفكار، وقمعت المعارضين بالقوة والسلاح، وأنواع التعذيب، وألوان الأذى، والسجون التي خرجت عن دائرة كرامة الإنسان وحقوقه، ولذلك نرى أن أول فكر متطرف ظهر في سجون عبدالناصر عندما قبض على الشباب المسلم بالآلاف، وعذبوا بصنوف العذاب، وأوذوا بأنواع الأذى، واستمعوا إلى كلمات السب والشتيمة، والقذف والكفر من زبانية السجون، حيث ظهرت جماعة التكفير والهجرة بقيادة مصطفى شكري، التي قامت على تكفير المجتمع إلا من يؤمن بالمبادئ التي حددتها، وبوجوب الهجرة من دار الكفر (أي التي لا تحكم الدولة فيها بالشريعة) إلى دار الإسلام، فالاستبداد دائماً يولد العنف لدى الآخرين، ويجعلهم لا يفكرون في وضح النهار، وإنما في جنح الليل وفي الظلام الدامس، وفي الأماكن السرية، فتنمو الأفكار المتطرفة في هذه الأجواء الكابتة.

لقد منعت الدعوة الإسلامية أن تقوم بعملها جهراً، فاضطرت للعمل السري، بل رأى الشباب المسلم حينما سجن كيف يعذب الدعاة بألوان من الإيذاء والعذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان، وما يشيب من هوله الولدان، فقد شويت الأجسام الغضة بالكرابح شياً، وكويت بالنيران وأعقاب السيكاير كياً، وعلق الرجال من أرجلهم كما تعلق الذبائح؛ يتناوبهم الجلادون واحداً بعد الآخر، كلما تعب أحدهم أخذ منه الجلاد الآخر، حتى يصير الجسد كومة من الدم والقيح والصديد. وكم من أناس سقطوا شهداء تحت العذاب لم يرقّ لهم ولم يعبأ لهم القساة الجبارون الذين لم يخشوا خالقاً، ولم يرحموا مخلوقاً، ولم يفكروا في محاسبتهم.

وقد استخدم في حق الشباب والدعاة المسجونين كل ما عرفته النازية والفاشية والشيوعية، وزادوا على ذلك بأساليب ابتدعوها في إيذاء الأبدان، وتعذيب النفوس، وسل الأمخاخ، وإهدار الآدمية، في الوقت الذي كان أهل الباطل يمرحون، وأهل الفسق والفجور والمجون يكرمون.

في داخل هذا الأتون لتعذيب البشر، ولد التطرف عملاقاً، وظهر التكفير جهاراً ونهاراً، حيث ظهرت جماعة التكفير والهجرة داخل السجون، ورد عليهم الأستاذ الهضيـبي في كتابه: «دعاة لا قضاة»، حيث بدأ هؤلاء المعذبون بسؤال بسيط لأنفسهم: لماذا هؤلاء يعذبوننا هذا العذاب الأليم؟ لِمَ كل هذا التعذيب؟ وأي جريمة اقترفناها غير أننا قلنا ربنا الله، ومنهجنا الإسلام، ودستورنا القرآن، فوصلوا إلى الحكم بأن هؤلاء الوحوش الكاسرة التي نهشت لحومهم كافرة، وأن هؤلاء الحكام من ورائهم الذين لا يحكمون بما أنزل الله، بل يعذبون من يطالب بذلك، كفار فسقة فجرة.. هكذا تأصل التكفير والتطرف، وهنا تمكن الانحراف الفكري، وترسخت مقولاته. وقد سجل الشيخ يوسف القرضاوي الذي سجن في هذه السجون، هول هذه السجون في قصيدته النونية، ننقل منها ما يلي:

ثارَ القريضُ بخاطري فدعوني

أفضي لكمْ بفجائعي وشجوني

فالشعرُ دمعي حينَ يعصرني الأسى

والشعرُ عودي يومَ عزفِ لحوني

كم قال صحبي: أين غرُّ قصائدٍ

تشجي القلوبَ بلحنها المحزونِ؟

وتخلّد الذكرى الأليمةَ للورَىتُتلى على الأجيالِ بعدَ قرونِ

صَوَّرتُ فيها ما استطعتُ بريشتي

وتركتُ للأيامِ ما يعييني

ما هِمْتُ فيها بالخيالِ فإنَّ ليبغرائبِ الأحداثِ ما يُغنيني

أحداث عهدِ عصابةٍ حكموا بني

مصرٍ بلا خُلق ولا قانونِ

أنستْ مظالِمُهُمْ مظالمَ مَن خلَوْا

حتّى ترحمَنا على نيرونِ

يا سائلي عن قصتي اسمعْ إنها

قصصٌ مِن الأهوالِ ذاتُ شجونِ

أَمْسِكْ بِقَلْبِكَ أنْ يطيرَ مُفَزَّعاًوتولَّ عن دُنياكَ حتى حينِ

فالهولُ عاتٍ والحقائقُ مُرةٌ تسمو على التصويرِ والتبيينِ

والخطبُ ليس بخطبِ مصرٍ وحدَها

بلْ خَطْبُ هذا المشرقِ المسكينِ

في كلِّ شبرٍ للعذابِ مناظرٌيَندى لها -واللهِ- كلُّ جَبينِ

فترى العساكرَ والكلابَ مُعَدَّةًللنهشِ طوعَ القائدِ المفتونِ

هذي تَعَضُّ بِنابِها وزميلُهايَعْدُو عليكَ بِسَوْطِه المسنونِ

ومضتْ عليَّ دقائقٌ وكأنَّهامما لقيتُ بِهِنَّ بِضْعُ سِنينِ

بالرِّجل بالكرباج باليد بالعصاوبكل أسلوب خسيس دُونِ

لا يرحمون الشيخ وهو محطموالظهر منه تراه كالعرجونِ

لا يشفقون على المريض وطالمازادوا أذاه بقسوة وجنونِ

كم عالم ذي هيبة وعمامةٍ وطئوا عمامته بكل مجونِ

قل للعواذل: إن رميتم مصرنابتخلف التصنيع والتعدين

مصر الحديثة قد علت وتقدمتفي صنعة التعذيب والتقرينِ!;