جزء من بحث لفضيلة ا. د. علي القره داغي بعنوان “الموقف المبدئي للاسلام من الاديان والمذاهب … المبادئ وبعض التجارب التاريخية”

أولى الإسلام عناية قصوى بترسيخ مجموعة من المبادئ والأسس والقواعد العامة في نفوس المسلمين من خلال مجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث الشريفة لتحقيق التعايش السلمي ، والقبول بالآخر ، بل لتحقيق التعاون البناء على الخير والعذاب ، والإحسان ، ومن أهمها :
 

مبدأ : الاقرار بالاختلافات القومية ، واللونية ، والفكرية والدينية والعقدية :
 إن من سنن الله تعالى أن الناس ( مسلمين أو غيرهم ) مختلفون في الأديان والأفكار والأيدلوجيات والتصورات ، فهناك العشرات بل المئات بل الآلاف من الأفكار والأديان والتصورات والمذاهب الفكرية والتوجهات المختلفة في مختلف جوانب الحياة .
  وهذا الاختلاف هو من إرادة الله تعالى ومن سننه الماضية حيث جعلهم مختلفين فيما سبق ، حيث يقول الله تعالى : (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين …… )  .  
   وفي نطاق الاختلاف في الأديان والمذاهب والآراء يقول الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)  وبين الله تعالى أن سننه تقضي وجود هذا الاختلاف حيث يقول  الله تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)  ثم كرر ذلك في سورة النحل فقال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتُسئلّن عمّا كنتم تعملون)  وفي سورة الشورى : (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير)  ويقول تعالى :  (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)  حيث تدل هذه الآيات بوضوح على أن هذا هو شأن الإنسان ، كما يفهم منه قبول هذا الاختلاف مع السعي لتقليله .
 ولكن هذه الاختلافات تقل أو تكثر ، تضعف أو تشتد ، تصغر أو تكبر حسب نسب مختلفة وفئات متنوعة بين المسلم وغيره ، ولكن المشتركات الإنسانية بين جميع بني البشر ، ثم المشتركات في أصول الأديان ، والقيم العليا أكثر ، وأكبر وأعظم من المفرّقات والممزقات وبخاصة في مجال قبول الآخر ، والعيش المشترك ، فقال تعالى (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)  .

مبدأ : سنة التدافع لله تعالى ، وسنة الدفع بالتي هي أحسن لهذه الأمة :
 ولم يستعمل القرآن الكريم لفظ الصراع ، وإنما استعمل لفظ الدفع والدفاع والمدافعة بدل الصراع  ، فقال تعالى : (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور)  وقال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ..)  وقال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد)  حيث تدل هذه الآيات على سنة التدافع ، وانها من سنن الله تعالى حيث يدفع الظالمين ولكنها لا تدل على تأصيل فكرة الصراع في قلوب المسلمين بأن يتخذوا الصراع منهجاً في تعاملهم ، كما هو الحال بالنسبة لسنة الخلاف والاختلاف فهي سنة ، ومع ذلك لا ينبغي للمسلمين أن يتخذوه منهجاً لهم في التعامل .
 وإنما الذي اكد عليه القرآن لهذه الأمة في كيفية التعامل مع المخالفين في غير حالة الحرب هو منهج الدفع بالتي هي أحسن ما دام ذلك ممكناً فقال تعالى في سورة المؤمنون : (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون)  وفي سورة فصلت : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقا الله إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم)  .

مقاصد الشريعة في بيان هذه الاختلافات :
يظهر لي أن من مقاصد الشريعة لبيان هذه الفروقات الدينية والعقدية بين المسلم والآخر هو ما يأتي :
1-    معرفة هذه الحقائق لقبولها والتعامل معها بشكل صحيح .
2-    أن يطبق على كل حالة من الحالات السابقة ميزانها الخاص ، فالميزان الخاص بعلاقة المسلم بالكافر الملحد يختلف عن ميزان التعامل مع أهل الكتاب ، كما أن ميزان الحرب هو غير ميزان السلم ، وأن ميزان الأقلية هو غير ميزان الأكثرية .
3-    أن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى ، ومفهوم في ظل طبيعة الإنسان ، حيث منحه الله تعالى العقل ، والارادة الحرة والاختيار ، وبالتالي يكون من الطبيعي اختلاف إنسان مع آخر في فكره وعقيدته وتصوراته .
4-    التكيّف مع الاختلاف ، والقبول به لأجل العيش المشترك ، والتعايش السلمي ، والتعامل ، بل التعاون على البر والخير ومصالح العباد والبلاد .

مبدأ : الاعتراف بكرامة الإنسان مطلقاً وحقوقه :
اعترف الإسلام بكرامة الإنسان باعتباره إنساناً مع قطع النظر عن فكره وعقيدته ، فقال تعالى : (ولقد كرمنا آدم)  .
 كما جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض وزوده بالإرادة والاختيار فقال تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة)  وحينما تدخلت الملائكة لبيان الحكمة من ذلك أثبت لهم بان الإنسان اعلم منهم في مجال الاستخلاف والتعمير .
 وقد أكرم الله تعالى الإنسان بالحرية في مجال العقيدة فقال تعالى : (لا إكراه في الدين)  وحرره من رق العبودية لغير الله ، وسعى بكل ما في وسعه لإعتاق العبد ومنع المثلة والتعذيب وحتى الترويع وأعطى حرمة عظيمة لحرمات الإنسان وخصوصياته وحقوقه ، وممتلكاته ، وساوى بين جميع البشر إلاّ من خلال العمل الصالح فقال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )  .
 وجعل المسؤولية شخصية فقال تعالى : (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)  وقال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى)  .

مبدأ : وحدة الأديان السماوية في أصولها ، ومُنْزِِِِِلها الواحد :
 يُرجع الإسلام الأديان السماوية كلها إلى أصل واحد وهو الوحي الإلهي ، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد ، ولذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين ، والكتب السماوية ، والكتب المنزلة السابقة ، فقال تعالى : (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)  وقال تعالى : (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)  .
 ويبين الله تعالى بأنه شرع لهذه الأمة كل الشرائع الأساسية التي شرعها على بقية الأنبياء (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما أوحينا به إلى إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)  .
 وقد ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم فقال تعالى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء) .
 بل إن القرآن الكريم يدعو اتباعه إلى اتباع سنن المرسلين فقال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)  .
 وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم جعل لفظ الإسلام اسماً مشتركاً لجميع الأديان السماوية السابقة وعلى ألسنة أكثر الأنبياء فيقول في شأن إبراهيم : (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)  وقال في شان يعقوب : (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)  ويقول تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام)  .

ونتج عن ذلك :
1 ـ الاعتراف بالأديان السماوية الحقة ، وبجميع الرسل والأنبياء الذين ذكرهم القرآن أو الذين لم يذكرهم ، وفسح المجال لأصحاب الأديان أن يعيشوا في ظل الإسلام .
2 ـ التعامل مع غير المسلمين بالتسامح دون الإكراه والاعتداء فقال تعالى (لا إكراه في الدين)  وقال تعالى : (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)  وقال تعالى محدداً وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم (ما على الرسول إلاّ البلاغ)  وقال تعالى :(فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)  وقال تعالى : (لكم دينكم ولي دين)  وقد أكد الله تعالى هذه المعاني في الآيات التي نزلت بالمدينة مثل قوله تعالى : (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)  .
 ومن الناحية العملية كانت وثيقة المدينة التي تعتبر بمثابة دستور يحكم أهل المدينة الذين كانوا مختلفين من حيث الدين (الإسلام والشرك واليهودية) ومن حيث الجنس (القحطانيون والعدنانيون واليهود) حيث سوّت بين الجميع في الحقوق العامة والواجبات من حسن الجوار والتناصر وما يسمى في عصرنا الحاضر بحقوق المواطنة .
وقد ظلت الدولة الإسلامية تحافظ على حقوق الذميين والمعاهدين بالكامل ، فكانت لهم مكانتهم ، وبعض المناصب العليا حتى من الوزارات ونحوها  ، يقول (لول ديورانت) : (لقد كان أهل الذمة بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية هذه الأيام ، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية ، واحتفلوا بكنائسهم ومعابدهم)  .

مبدأ : احترام النفس الإنسانية حية أو ميتة ولو كانت غير مسلمة :
 فقد دلت النصوص الشرعية على احترام الإنسان من حيث هو إنسان ، كما دلت النصوص على احترام الإنسان وهو ميت أيضاً حتى ولو كان غير مسلم ، فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : ( كان سهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، قاعدين بالقادسية ، فمروا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنها من أهل الأرض ـ أي من أهل الذمة ـ فقالا : إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام ، فقيل له إنها جنازة يهودي ! فقال : ( أليست نفساً )  .

مبدأ : عدم إكراه أحد على الاسلام ولو كان ولداً لأبيه المسلم :
  فقد ذكر الطبري والسيوطي بسندهما عن ابن عباس : ( أن أبا الحصين الأنصاري كان له ابنان قد تنصرا قبل الهجرة ولحقا بالشام ، ثم عادا إلى المدينة فلزمهما ، وأراد إجبارهما على الإسلام فأبيا ، ثم احتكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكرهمها على الاسلام وكان حجة والدهما قوله : ( يا رسول الله أيدخل بعضي النار ، وأنا أنظر ؟ ) فأنزل الله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)  فخلّي سبيلهما) .

مبدأ : أن الأصل في الإسلام هو السلام لا الحرب :
 الحرب في الإسلام لا يلجأ إليها إلاّ في حالة الضرورة ، فهي ليست محبوبة من حيث المبدأ بل هي مكروهة في نفوس المؤمنين فقال تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ….)  .
 وقد أكد القرآن الكريم ذلك حيث يقول : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم)  . وقد منّ الله على رسوله محمد وصحبه بأنه منعهم من الوقوع في الحرب فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)  وقال تعالى : (  وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا )
 وتدل هذه الآية بوضوح على أن الإسلام دين سلام وعقيدة ، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله ، وان يقيم فيه منهجه ، وان يجمع الناس تحت لواء الله اخوة متعارفين متحابين ، وهذا الرجاء من الله تعالى معناه القطع بتحققه ، وهذا ما تحقق فعلاً حيث أسلمت قريش ومعظم القبائل المحيطة ، ووقف الجميع تحت لواء واحد ، وطويت الثارات والمواجد.

مبدأ : تقديم الصلح على الحرب حتى ولو كان الصلح فيه بعض الغبْن :
 وقد أطلق الله تعالى الخير على الصلح فقال : (والصلح خير)  وقال تعالى : (…أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس…)  ولم يقل بين المؤمنين فقط ، بل عمم الصلح والإصلاح بين الناس جميعاً ، فذلك الخير والأنفع ، وقال تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً) .
 وقد بين الإسلام خطورة الإفساد في الأرض وعدم الإصلاح فجعله من الكبائر المحرمات الموبقات ، فقال تعالى : (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)  وقال تعالى في وصف الكفرة المجرمين : (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)  .
 والإصلاح هو رسالة الأنبياء فقال تعالى على  لسان شعيب عليه السلام : (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب)   وقد جعل الله التوفيق حليف من يريد الإصلاح دائماً فقال تعالى : (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)  .
 وربط الله تعالى بين الهلاك والإفساد ، وبين النجاة والإصلاح فقال تعالى : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)  .
 وليس الصلح والإصلاح في الإسلام مجرد شعار ، وإنما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة حيث حينما جاء للعمرة ومعه عدد كبير من صحبه الكرام منعهم قريش على الرغم من ان كل الدلائل كانت تشير إلى أن الهدف الأساس هو أداء العمرة ، ولذلك أتوا محرمين ،وساقوا الهدي حتى وصلوا حديبية ، حيث بركت ناقته القصواء ..ثم قال : (والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها)  ثم حاول الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة ، ولكن قريش منعته ، فأرسل رسله تترى لبيان موقفه لهم ، حيث أرسل خراش بن أمية الخزاعي ، فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش ثم أرسل عثمان بن عفان فأبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الهدف هو زيارة الكعبة وتعظيمها ، غيران قريشاً أخرته حتى ظن المسلمون أنها قتلته ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة تحت الشجرة  فبايعوه جميعاً على الموت سوى الجد ابن قيس (وكان منافقاً) ثم انتهى الأمر بالصلح الذي في ظاهره تنازل من طرف المسلمين لصالح المشركين ، فمثلاً كتب علي بن أبي طالب عقد الصلح ، وسطر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم  وثيقة الصلح بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ، فاعترض ممثل قريش سهيل بن عمرو فقال : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ باسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم .
 ثم اعترض سهيل على عبارة : (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) حيث قال سهيل : (والله لو كنا نعلم انك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبدالله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبدالله ) فاعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة (رسول الله) فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب ، فمحاها بيده  .
 ثم اعترض سهيل على بند : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) حيث قال : (والله لا تحدث العرب انا أخذنا ضغطة)  أي فرض علينا ذلك بالقوة .
 ثم اشترط شرطاً تعسفياً غير عادل وهو : (أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلاّ رددته إلينا) في حين أن من عاد من المسلمين إلى قريش فإنها لا ترده  .
 ومع ذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الاتفاقية مع تذمر المسلمين منها حيث ضاقوا ذرعاً ببنودها ، وأسلوب الإملاء والصياغة ، حتى قال عمر له : (ألست نبي الله حقاً؟ قال : بلى ، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت فلِم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : ( إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)  .
 ومما زاد الطين بلة أنه أثناء الاتفاقية جاء أبو جندل بن سهيل وهو مرسف في قيوده ، وقد خرج من اسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه ان ترده إليَّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً ) ، ففي صحيح البخاري : (وأبا سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ على ذلك ، فكره المؤمنون ذلك وامَّعضوا ، فتكلموا فيه ، فلما أبى سهيل …كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم …ورد أبا جندل إلى أبيه …ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلاّ رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ….) .
 وقد غضب المسلمون نفسياً من رد المسلمين الفارين بدينهم حتى قالوا : يا رسول الله تكتب هذا؟ قال :(نعم ، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)  .
 هذا الصلح الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الشروط وفي ظل حنق المسلمين وغضبهم إن دل على شيء فإنما يدل على مدى أهمية الصلح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم بل لدى الإسلام حيث نزلت الآيات من فوق سبع سموات سمته بالفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ) ثم قرأ : (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)  .
 وحقاً كان هذا الصلح فتحاً عظيماً للقلوب حيث دخل في الإسلام من بعد الصلح عام ست من الهجرة إلى عام فتح مكة في ثمان آلاف مؤلفة ، حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح حديبية ومعه حوالي 1500 ، في حين جاء في فتح مكة ومعه ثمانية آلاف.
 وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أشد المتمسكين بتنفيذ بنود العقود معه ـ كما سبق ـ والمحافظين عليه ، حتى إن بعض شباب قريش الطائشين أرادوا أخذ مسكر المسلمين غرة ، وكان عددهم ثمانين شاباً ، لكنهم أسروا ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم  مع أنه كان بالإمكان أن يجعل ذلك سبباً لنقض الاتفاقية ، كما عفا عن سبعين أسيراً أسرهم المسلمون بعد الصلح ، وعن أربعة حاولوا الإيقاع بالرسول فأخذهم سلمة بن الأكوع .
 وروى مسلم في صحيحه بسنده عن انس بن مالك : أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسللين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم سَلَماً ـ أي أسرهم ـ مسلماً فاستحياهم ، فانزل الله عز وجل : (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)  .
 وفي هذه الآية دلالة أخرى على أهمية الصلح وعدم الوقوع في الحرب حيث إن الله تعالى امتن بذلك على المؤمنين ، مما يدل على انه من النعم الكبرى ، وان الحرب من حيث هي ليست محببة في الإسلام .
 يقول الشيخ محمد عبدالله دراز : (ومن هنا نرى ان الحرب في نظر الإسلام شرّ لا يلجأ إليه إلا المضطر ، فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم ، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء ، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح)  .

مبدأ : العدل والقسط للجميع   :
 يعتبر هذا المبدأ في الإسلام من اعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة ، بل تقوم عليه السموات والأرض ، ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثمان وعشرون مرة ، كما ذكر رديفه (القسط) في القرآن الكريم ……. تناول القرآن الكريم خلالهما أهمية العدل والقسط ، حيث أمر بالعدل والإحسان ، فقال تعالى : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر )  وقال تعالى : (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله)  وقال تعالى : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )  وقال تعالى : (وأمرت لأعدل بينكم)  وشدد في حرمة عدم العدل مع قوم ولو كانوا أعداء فقال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ..)  وأمر المسلمين أن يكون حكمهم قائماً على العدل بين الناس جميعاً ،بل جعل العدل أساساً للحكم الإسلامي ، فقال تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)  وشدد الإسلام في اتباع الأهواء والرغبات والمصالح الشخصية ليؤدي ذلك إلى ترك العدل فقال تعالى : (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)  وأمر بالعدل حتى مع البغاة الخارجين على الدولة المقاتلين فقال تعالى :(فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)  .
 بل إن الله تعالى نهى عن التعدد بين النساء إذا أدى إلى الجور وعدم العدل فقال تعالى : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)  وجعل العدل شرطاً في قبول الشهادة والحكم ونحوهما ، فقال تعالى : (واشهدوا ذوي عدل منكم)  .
 وتكرر لفظ (القسط) ومشتقاته في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة ، حيث أمر الله تعالى فيها بالقسط مطلقاً أي العدل فقال : (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط )  وبالقسط في الحكم فقال تعالى : (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)  ، وبالقسط في النزاعات حتى مع الخارجين عن القانون فقال تعالى : (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )  وجعل الله مصير هؤلاء الذين يقتلون العادلين إلى النار والعذاب الأليم فقال تعالى : (..ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)  وامر ان يكون الوفاء في الكيل والوزن في الماديات والمعنويات بالقسط والعدل فقال تعالى : (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط)  وقال تعالى : (وزنوا بالقسطاس المستقيم)  .
 ومن الناحية العملية شهدت السيرة النبوية العطرة وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس جميعاً أروع الأمثلة في العدل والقسط ، وكذلك سيرة خلفائه الراشدين .
 فعلى الرغم من أن الإسلام ينشد وحدة الأمة ويريد لهم الخير كله ، لكنه اعترف بالاختلاف في العقائد والأفكار والألوان والأطياف ، حيث يقول القرآن : (كان الناس أمة واحدة) أي بعد ذلك اختلفوا (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه…)  وبعد أن ذكر الله تعالى اليهود والنصارى واختلافهم قال : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات….)  .
 وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف أحد المقاصد المعتبرة للابتلاء ، فقال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم)  .
 وهذه الآيات الكثيرة ومثلها من الأحاديث النبوية تهيئ نفوس المسلمين لقبول الآخرين المختلفين معهم عقدياً وفكرياً وأصولياً وفرعياً ، والتعايش معهم بأمن وأمان ، وهذا ما حدث طوال التأريخ الإسلامي ، حيث عاش غير المسلمين في أكناف الدولة الإسلامية القوية ، وهم يتمتعون بكامل حقوقهم بل تقلدوا مناصب رفيعة في ظلها ، ولم يحدث مثل ذلك في ظل الإمبراطوريات الدينية الأخرى مثل الدولة الرومانية التي كانت تضطهد اليهود ، وغير النصارى ، ثم لا ينسى التأريخ ما فعل الصليبيون بالمسلمين واليهود في الأندلس .

مبدأ : أن الحوار ـ لا الصراع ـ هو الأصل في حل المشاكل ، والتعامل :
يركز القرآن الكريم على تعويد الأمة على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالحوار ، والجدال بالتي هي احسن ، دون القهر والاستبداد والصراع ، حيث يقول القرآن الكريم : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن)  .
 ويؤكد القرآن الكريم ذلك مرة أخرى بالنهي عن الجدال مع أهل الكتاب إلاّ بالتي هي احسن فيقول : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)  .

ثناء الإسلام على الأديان السماوية وكتبها وأنبيائها ، ثناءً عاطراً :
 فقد أولى القران الكريم عناية قصوى بالثناء على سيدنا إبراهيم الذي هو جد جميع أنبياء بني اسرائيل ( اليهودية والنصرانية ) وبأولاده وذرياته ، وبسيدنا موسى حيث ذكره القرآن الكريم قصصه في عدة سوره حتى بلغ تكرارها موجزاً ومختصراً أربع عشرة مرة ، كما أثنى القرآن الكريم ثناءً عاطراً على آل عمران وسمى سورة باسمهم ، وعلى مريم التي أيضاً سمى باسمها سورة ، وعلى السيد المسيح ( عليهم السلام جميعاً ) في عدة آيات وسور ، فمساه القرآن : كلمة الله ، ووصفه بأوصاف عظيمة ، بل إن الله تعالى أثنى ثناءً عاطراً على بني اسرائيل عندما كانوا يحملون الدعوة إلى الله تعالى حتى فضلهم على عالمي زمانهم فقال تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)  كما أثنى على النصارى بصورة عامة فقال تعالى : (……..وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)  .
  وكذلك ذكر القرآن الكريم التوارة والانجيل بأوصاف جميلة وعظيمة ، فقال تعالى في وصف التوراة : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)  ، وقال في حق الانجيل : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) .
  بل إن الاسلام يشترط لصحة العقيدة واكتمال أركان الإيمان أن تؤمن بجميع الرسل فقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)  كل ذلك حتى يؤدي إلى كسب اليهود والنصارى ، وإبعادهم عن شبه الصراع ، ولكنهم لم يولوا العناية المطلوبة لكل ما جاء في القرآن العظيم حول ما جاء عن الأديان السابقة ، وكتبها ورسلها ، وحول بني اسرائيل ، والنصارى .. .

مبدأ : عدم تعميم الحكم في الإسلام على الآخرين :
  ومن أعظم الوسائل المقربة لما بين الناس هو أن القرآن الكريم لم يعمم في الحكم على أهل الأديان ، بل ترك مجالاً كثيراً للحوار والتعايش مع الآخرين ، حيث لم يحكم عليهم حكماً عاماً في سوء التعامل أو عدم الصلاح ، وعدم الأمانة ، فمثلاً قال تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ )  وقال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)  وقال تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)  فهذه الآيات تهيئ الأجواء المناسبة للتعايش والتحاور ، والتعاون .

مبدأ : توسيع دائرة المشاركة بين المسلمين وغيرهم لتشمل الجميع حتى الملحدين  :
  فإذا كان الإسلام أعطى هذه المساحة الكبيرة المشتركة للعلاقة بين المسلمين ( نحن ) وأصحاب الديانات السماوية ( اليهود والنصارى ) فإن هذا لا يعني أن الإسلام أعلن الحرب مطلقاً على غيرهم من الملحدين أو المشركين ، والوثنين ، ونحوهم ، بل إنني أستطيع القول : إن سياسة الإسلام هو توسيع دائرة التعايش لتشمل الجميع ـ ما عدا المعتدين ـ .
ومن هذا الباب فإن الله تعالى يدعو جميع المخالفين ـ بمن فيهم الملحدون والوثنيون والدهريون … ، إلى قاعدة مشتركة بين بني  البشر جميعاً ، وهي البحث عن الحقيقة فقال تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ )  .
  فهذه الآية الكريمة دعوة صريحة للجميع بدون استثناء للبحث عن معرفة الحقيقة والهداية ، والباطل ، والضلالة ، ولذلك لم يحكم القرآن عند الجدال بأن الإسلام هو الصحيح ( مع أنه كذلك ) ، ولا على باطل المشركين وشركياتهم بأنه ضلالة ( مع أنه كذلك ) بل ترك الباب للحوار والنقاش .
  ومن بديع هذا الأسلوب المعجز أنه دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى وصف ما عندهم من الحق بفرضية وصف الإجرام، ووصف ما عند الكفرة بالفعل العادي  حتى لو كان باطلاً وإجراماً لأنهم هم الذين يتحملون مسؤوليتهم ، في حين لم يستعمل هذا الوصف بالمقابل للمقابل للدلالة على أن المحاور يجب عليه أن يحترم ما لدى الآخر ، فلا يحكم عليه في البداية ، وفي اعتقادي أن هذه الآية تعتبر أعظم قاعدة وأوسعها وأرقها وأعذبها ، وأحكمها وأشملها في باب الحوار والتعايش .
والتحقيق ان الإسلام يعترف بمجموعة من دوائر الارتباط والوشائج وإن كان قد جعل وشيجة العقيدة والاخوة الإيمانية هي الأساس ، حيث يريد من خلال التوسع في هذه الدوائر إيجاد أرضيات مشتركة للتقارب والتعايش والتعاون ، والدعوة ، وتلك الدوائر هي:
أ ـ دائرة الإنسانية حيث الجميع من آدم وحواء ولذلك يجيء الخطاب بـ : يا أيها الناس.
ب ـ دائرة القومية ، حيث عبر القرآن عنها بالاخوة أيضاً ـ كما سبق ـ .
ج ـ دائرة من هم أهل الكتاب
د ـ وأخيراً دائرة الباحثين عن الحق مطلقاً .

مبدأ : أن الجهاد لأجل الحرية الدينية :
ان إعلان الإسلام الجهاد في أول آية تنزل فيه ؛ لأجل الحرية الدينية ، والمعابد مطلقاً لا بدّ أن يأخذ حيزاً كبيراً في التعامل ، حيث يقول الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )  .

مبدأ : أن القتال هو آخر مراحل الجهاد :
 ان في تركيز الإسلام ـ  على أن الجهاد في سبيل الله ليس القتال فقط ، بل القتال هو آخر المطاف بشروطه وضوابطه ـ إعطاءً لفرص أخرى من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، ونحوها .

مبدأ : ربط الاختلاف بالتعارف لا القتال :
 فقد ربط القرآن الكريم الاختلاف بالتعارف ، وليس بالصراع ، والتناحر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)  .

والخلاصة
 أن هذه الأسس الفكرية والعقدية الكثيرة تؤثر بلا شك في نفسية المؤمنين للاندفاع نحو السلم والتعارف والتعايش وقبول الآخر ، والتفاعل الحضاري الايجابي لخير الجميع ، وهذا ما حدث في تأريخنا الإسلامي .