يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه «المشكلة الاقتصادية وحلها» والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (النظام المالي والسياسة المالية في الاقتصاد الإسلامي) وعرضنا معالم المشروع الإسلامي الاقتصادي لحلَ هذه الأزمة المالية، وفي هذه الحلقة يستكمل فضيلته عرض كتب العلماء العرب في الاقتصاد الاسلامي:

4ـ كتاب الكسب، أو الاكتساب في الرزق المستطاب تأليف الإمام محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني المتوفي 243هـ.

وهو كتاب مع صغر حجمه في غاية من الأهمية حيث عالج موضوعات مهمة في الكسب والإنتاجية، ومشروعية العمل، وإظهار المفهوم الإسلامي للغنى والفقر، والحاجات الاقتصادية.
5ـ كتاب الأموال للإمام حميد بن زنجويه المتوفى 251هـ، طبع بتحقيق د. شاكر ذيب فياض، وطبعه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في 1406هـ في ثلاثة مجلدات سار المؤلف فيه على ضوء كتاب شيخه أبي عبيد في الأموال من حيث عناوين الكتب لكنه يضيف بعض الأبواب والأحاديث والأقوال إلى كتابه هذا.
6ـ كتاب التبصُّر بالتجارة لعمرو بن بحر المعروف بالجاحظ الإمام الأديب المولود بالبصرة عام 150هـ والمتوفي بها أيضاً في عام 255هـ.

نشر هذا الكتاب بتحقيق حسن حسني عبدالوهاب عضو مجمع اللغة العربية بدمشق والقاهرة، ط. دار الكتاب الجديد عام 1966م، وقام الأخ الدكتور رفعت السيد العوضي بتحليل اقتصادي له، في حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر / العدد السابع 1409هـ أوضح أن الجاحظ هو أول من استعمل مصطلح التجارة في عنوان الكتاب، وان كتابه هذا يتضمن بعض المعارف المتعلقة بالتجارة كحرفة، وبالصناعة كحرفة، وبعض المعارف المتعلقة بالكيمياء، والاحجار الكريمة، وما يلحق بها، كما تضمن بياناً بكثير من السلع المتبادلة في عصره، وخصوصية بعض البلاد ببعض السلع مثل فارس بالثياب والأدوية، وماء الورد، والأهواز بالسكر، والحديد، والري بالأسلحة والثياب والفواكه، وآمد بالثياب الموشاة، والملابس الصوفية وهكذا، وقد علق الدكتور العوضي على هذا بقوله: (ويعني هذا أن العالم الإسلامي كان يغطي حاجاته ذاتياً…، وكان يتكامل اقتصادياً..، وأنه لم يكن مستورداً للغذاء والسلاح من عند غير المسلمين…).

وجاء بعده أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي ( من علماء القرن السادس الهجري) فألف كتابه بعنوان: (الإشارة إلى محاسن التجارة) فأفاض في القضايا التجارية والاقتصادية حتى سماه أحد الباحثين أبا الاقتصاد.
7ـ كتاب إصلاح المال للإمام أبي بكر بن أبي الدنيا المولود في 208هـ ببغداد، والمتوفي بها في 281هـ، وهو قد طبع بتحقيق الدكتور مصطفي مفلح القضاة عام 1410هـ /1990م.
والكتاب يتضمن جزأين، يشتمل الجزء الأول على أبواب خاصة بأخذ المال من حقه، وفضل المال، وإصلاحه،… ونحو ذلك، ويتضمن الجزء الثاني أبواب القصد في المال وفي المطعم، وفي الملبس، والتركات، وكثرة المال، والفقر.
وهو كتاب تربوي مكمل لكتاب شيخه الأموال لأبي عبيد الذي ذكر فيه المسائل الفقهية، فجاء ابن أبي الدنيا فأضاف إليها المسائل التربوية، والتعليمية في أخذ الأموال وإصلاحها والاقتصاد فيها فأظهر بالنصوص أن الاقتصاد في الأمور المعاشية وغيرها من الضروريات التي لا غنى للمسلم عنها في حياته.
8ـ كتاب الأموال للإمام أحمد بن نصر، أبي جعفر الداودي المالكي المتوفى 402هـ، حيث جاءت أبوابه في أحكام الغنائم والفيء والأنفال، واحكام الجهاد والصلح والهدنة، وفتح افريقية، ومكة، وأحكام الصدقات، ثم ختمه بذكر الكفاف والفقر والغنى، والكتاب حققه مركز الدرسات الفقهية والاقتصادية، وطبعته دار السلام بالقاهرة عام 1421هـ.
9ـ كتاب حق الفقير للإمام ابن حزم الظاهري المتوفي 456هـ، الذي حاول فيه ابن حزم بيان الحلول لمشكلة الفقر المتمثلة في قيام الدولة بواجبها في جمع الزكاة بالكامل وصرفها بالعدل، ثم إن لم تكف الزكاة تستكمل من خلال حقوق أخرى من المال سوى الزكاة.
10ـ كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة، التي ذكرناها في الفقرة (6). 11ـ كتاب البركة في فضل السعي والحركة للإمام أبي عبدالله محمد بن عبدالرحمن بن عمر الوصابي الحبشي المتوفى سنة 782هـ وهو كتاب جامع بين ما يحقق خيري الدنيا والآخرة، حيث يتكون من سبعة أبواب، خصص الباب الأول لفصل الحرف والزرع، وذكر حرف الأنبياء، ثم ذكر ان أصول المكاسب ثلاثة: الزراعة، والصناعة، والتجارة، واختلاف الناس في أنها أفضل، وخصص الباب الثاني لفضل عمل المرأة، والثالث لما تجلب به البركة، والرابع في الطب والمنافع، والمعادن، والخامس في ذكر 40 حديثاً يتضمن لفظ البركة، والسادس والسابع في الأذكار وأنواعها. 12ـ كتاب الاستخراج لكتاب الخراج لأحمد بن رجب الحنبلي المتوفي 795هـ، وهو كتاب خراجي على المذهب الحنبلي حققه الأخ جنيدي محمود الهيتي. 13ـ كتاب الفلاكة والمفلوكين أي الفقر والفقراء تأليف أحمد بن علي الدلجي المتوفي 799هـ، طبع هذا الكتاب بمطبعة دار الشعب بالقاهرة عام 1322هـ، وهو كتاب تحليلي لمشكلة الفقر باعتباره ليس ظاهرة من ظواهر الحرمان فقط، وإنما هو له تأثيراته الخطيرة على الإيمان والعبادات والفضائل، وأن الأمة الفقيرة لا يمكن أن يتحقق لها توازنها حيث تكون معرضة للهيمنة والاستبعاد. 14ـ كتاب كشف الحال عن الوجوه التي ينتظم منها بيت المال، تأليف محمد التاردي بن محمد الطالب بن سودة المري الفاسي المتوفي 1209هـ، وهو كتاب مخطوط لم يطبع بعد يتحدث عن موارد بيت المال، وسبل التصرف فيها، ويورد سير السلف الصالح والخلفاء بهذا الشأن، فيتحدث عن الغنمية والركاز والمال الذي لا وراث له ولا صاحب.

تعليق وتحليل:
هذه الكتب المتخصصة في المال وأحكامه التي وصلتنا، وكتب أخرى لم تصلنا ـ وهي كثيرة ـ والتي بدأ التأليف فيها منذ القرن الثاني الهجري، أي القرن الثامن والتاسع الميلادي حيث كانت أوروبا كلها تعيش ما يسمى: القرون الوسطى (500 ـ 1500م) إن دلت على شيء فإنما تدل على سبق المسلمين في تأصيل علم الاقتصاد، والنظريات الاقتصادية لحل المشاكل، وبالتالي فإن إنكار بعض كتاب المسلمين للاقتصاد الإسلامي ليس محل استنكار فحسب، بل محل استغراب ناتج عن التغريب واستلاب الذات والهوية.
من جانب آخر فإن هذه الكتب ـ في مجموعها ـ ليست مجرد استعراض للنصوص الشرعية، بل فيها التحليل والتأصيل وبيان مشاكل الفقر والظلم، والبطالة، وقلة الإنتاج، وأسبابها، وآثارها، ومخاطرها على الدين والمجتمع، مع بيان حلول عملية لها، كما أنها تتضمن نظاماًَ مالياً متكاملاً جامعاً بين الدين والأخلاق والفكر والاستنباط، وهذا لا يعني أننا نقول: إنها منظمة مثل علم الاقتصاد اليوم، ولكنها نواة، ومبادئ طيبة لبناء علم الاقتصاد الإسلامي ونظرياته عليها، كما سنتطرق إلى ذلك بشيء من التفصيل بإذن الله تعالى. موقف الإسلام من المال: لا يمكن لنا إدراك موقف الإسلام من المال إلاّ إذا استعرضنا معاً موارد المال في القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث يفهم من بعضها ذم المال، ومن بعضها الآخر أنه خير وممدوح، ولذلك نذكرها ثم نعقبها بآراء العلماء، ثم نطبق عليه المنهج الصحيح القائم على النظرة الشمولية التي تجمع النصوص كلها ثم تربط بعضها مع البعض، ثم تأخذ منها الجامع المشترك لتحمل كل آية على الحالة المرادة منها.
فقد تكرر لفظ المال ومشتقاته في القرآن الكريم كثيراً، فنرى أن القرآن الكريم وصفه في بعض الآيات بأوصاف الذم، في حين وصفها في بعضها الآخر بأوصاف المدح، وبما أنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين آيات الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.
إذن فالصواب ليس في المنهج الاحادي من حيث النظرة والتفسير، وإنما في المنهج الجامع بين هذه الآيات، وحمل كل مجموعة على محملها، والآيات التي تتحدث عن ذم المال محمولة على الأموال الباطلة المحرمة، أو التي يتعلق بها القلب فتشغله عن طاعة الله، أو تدفعه إلى معصية الله وأما الآيات التي تثني على المال فهي محمولة على المال الصالح، والمال الذي يتحقق به تعمير الأرض وخدمة المجتمع، والجهاد في سبيل الله.
فلنطبق هذا المنهج على الآيات الواردة في الأموال:
أولاً ـ مجال المدح:

أ ) عشرات الآيات التي تحدثت عن الجهاد بالمال والنفس حيث قدمت معظمها الجهاد بالأموال على الأنفس، منها على سبيل المثال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فالجهاد بالمال هو من أعظم أنواع الجهاد الذي ينقذ الأمة من ذل الكفر، والفقر والجهل والمرض، ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
ب ) المال هو ثمن الجنة فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).
ج ) المال يكون قرضاً حسناً خيراً للمرأ فقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ).
د) المال قيام المجتمع، أن المجتمع لا ينهض ولا يتقدم ولا يعمر الكون إلاّ من خلال المال ـ بعد الايمان ـ فقال تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً).