المقدمة

 

 الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين

وبعد

 فمن مستلزمات الالتزام بالإسلام الالتزام بنظمه وأحكامه ، ولذلك أوجب الله تعالى على المؤمنين أن يأكلوا من الطيبات (أي الحلال الطيب) كما أمر بذلك رسله الكرام فقال تعالى : (يا أيها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)[1] كما أمرهم أيضاً بالانفاق من الطيبات فقال تعالى : (يا أيها الذين امنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم)[2] . 

 كما ربط الله تعالى بين القرب من الله تعالى واستغفاره وبين رغد المعيشة وبركتها ونعمتها فقال تعالى : (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)[3] .

 وتحقيق الطيبات من الملبس والمأكل والمشرب ونحوهما إنما يتم من خلال أمرين أحدهما العلم بالحلال والحرام وطريق البيع والشراء ، وأحكام العقود وشروطها وضوابطها ، والثاني الالتزام بمقتضى ذلك العلم ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يمنع المتاجرة في السوق إلاّ لمن كان عالماً بالحلال والحرام ، حيث قال : ( لا يبع في سوقنا إلاّ من تفقه في الدين)[4] .

 والعلم بالحلال والحرام في باب المعاملات إنما يتم بأحد الوجهين : فإما أن يكون المتعامل فقيهاً عالماً بأحكام المعاملات ، أو عن طريق سؤال أهل الذكر .

 وبما أن العلم بالمعاملات المالية المعاصرة وأحكام البنوك والشركات ليس ميسوراً لكل أحد ، وبالأخص للإداريين ورجال الأعمال اقتضت الضرورة لسلامة مسيرة المؤسسات المالية الإسلامية أن تكون لها هيئات شرعية تكون مرجعاً لإدارتها الفنية ، ولتقوم بالإشراف والرقابة على أعمالها ،وفحصها وتقديم تقرير مفصل إلى المساهمين من خلال الجمعية العمومية لهم ، ناهيك عن المساهمة في تطوير الآليات الشرعية لتلك المؤسسات ، وتكون قراراتها ملزمة فيما يخص الجانب الشرعي.

 وقد تطورت هيئات الرقابة الشرعية منذ نشأتها مع أول بنك إسلامي (بنك دبي الإسلامي عام 1975) إلى يومنا هذا سواء أكان تطويرها من خلال الشكل أم المضمون والآليات حيث تم إنشاء الهيئة العليا للرقابة الشرعية للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية من خلال اجتماعها التمهيدي باستضافة بنك دبي الإسلامي في 12- 13 إبريل 1983 ثم الاجتماع الثاني بإسلام آباد في 22- 24 مارس 1984 ، ثم الثالث بالقاهرة في آخر عام 1984 ، حيث بدأت بمناقشة قضايا عملية مهمة ، فأصدرت عدداً من الفتاوى ووضعت لنفسها لائحة لتنظيم اجتماعاتها وقراراتها ، لكنها مع الأسف الشديد توقفت فيها .

 وكذلك أنشئت في السودان الهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية بالسودان في 2 مارس 1992 من أحد عشر عضواً معظمهم من علماء الشريعة ، ومن علماء الاقتصاد والمصارف[5] .

 وكذلك أدت الهيئة الشرعية الموحدة للبركة دوراً متميزاً في خدمة العمل المصرفي ، وآلياته ، وتطوير الرقابة الشرعية ، والقيام بأنشطة طيبة في مجال عقد المؤتمرات والندوات والحلقات التي أثرى بها العمل المصرفي ، بل والاقتصاد الإسلامي العملي ، وذلك بسبب الدعم الكبير الذي تلقته الهيئة من الإدارة التي يرأسها الشيخ صالح كامل جزاه الله خيراً .

 ثم خطت هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية خطوة رائدة من خلال إنشائها لجنة شرعية تقوم بمراجعة وإجازة الدراسات الشرعية الممهدة لإصدار معايير المراجعة والمحاسبة والأخلاقيات ، ثم مراجعة هذه المعايير عند إعدادها ، ثم تطورت هذه اللجنة فتحولت منذ عام 1999م إلى المجلس الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية .

 ولم يقف دور هيئة المحاسبة والمراجعة عند هذا الحدّ ، بل قامت بتنظيم مؤتمرات كبيرة للهيئات الشرعية ، حيث نحن اليوم نجتمع في مؤتمرها الثالث الذي خصص لعدة محاور منها المحور الذي كلفت بالكتابة فيه ، وهو : الهيئات الشرعية بين الأخطاء والمخالفات الشرعية في المصارف الإسلامية ، والسرية المهنية ، ومدى تأثيره سلباً أو إيجاباً على المصرفية الإسلامية .

 وقد بذلت فيه جهدي وصرفت فيه طاقتي ليخرج الموضوع بما يتناسب مع أهمية المؤتمر ، ولتحقق الغرض المنشود منه ، حيث تطرقت إلى التعريف بالأخطاء الشرعية والمخالفات الشرعية ، والفرق بينهما ، وحكم الخطأ ، وحكم المخالفة بإيجاز ، والتطبيق العملي لما سبق للمؤسسات المالية الإسلامية ، ثم تطرقت إلى واجب الهيئة الشرعية في بيان الأخطاء والمخالفات الشرعية ، ومسؤولية الالتزام بالشريعة الإسلامية ، ووجوب البيان مع وجوب صرف ما نتج عنهما ، وكيفية بيان الأخطاء وسبله ، والتوازن بين السرية والاعلان ، وغير ذلك .

 والله أسأل أن يكسو عملي هذا ثوب الإخلاص ، ويلبسه حلة القبول ، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في القول والعقيدة والعمل ، إنه حسبي ومولاي فنعم المولى ونعم النصير .