هذا بحث آخر لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث من إنتاجه العلمي المتميز، وهو بحثٌ قدم إلى مؤتمر الفكر الإسلامي ودوره في مواجهة الغلو، والذي انعقد الشهر قبل الماضي بالتعاون بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ومركز الوسطية في موسكو ويقدم فيه فضيلته رؤية معمقة حول مَواطن الخلل في فهم الجهاد والتكفير لدى فكر الغلاة:
وقد أجاب أهل السنة والجماعة على تأويلات المعتزلة في نفي رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة بأن هذا مبني على أصل فاسد وهو قياس الغائب على الشاهد، وذلك لأن هذه الشروط التي ذكرتها المعتزلة للرؤية هي شرطٌ لرؤية الأجسام والمحدثات، أما رؤية الله تعالى فلها ميزانٌ آخر، كما أن فعل الله تعالى قوله: كن فيكون مختلفٌ عن فعل الإنسان الذي يحتاج إلى الأخذ بالأسباب.
وقد أكد المعتزلة أنهم يقيسون الغائب على الشاهد، حيث يقول القاضي عبدالجبار المعتزلي في تقرير هذا المبدأ وتعليله: (لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً) وذلك بعد أن قال: (وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادراً، فهو أن نرى في الشاهد جملتين: إحداهما: صح منه الفعل كالواحد منا، والأخرى تعذر عليه الفصل كالمريض المدنف، فمن صح منه الفعل فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه قادراً، وهذا الحكم ثابتٌ في الحكيم تعالى؛ لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً).
وقد نبه إلى ذلك الآمدي الأصولي حيثما دافع عن القياس مطلقاً في مجال الأحكام العملية، ورأى عدم الاعتماد عليه في المباحث الكلامية بحجة أن الغائب تتعذر معرفة الجامع فيه، فحينئذٍ يكون الجمع تحكماً محضاً ودعوى لا دليل عليها، ويلزم القائل بذلك أن يعترف بصحة حُكم من حَكم بأن جميع الآدميين سودان إذا لم يشاهد إلاّ الزنوج…).
وقد انتقد الآمدي كل من قال بقياس الغائب على الشاهد حتى الأشاعرة الذين قالوا في باب الصفات فقط دون الأفعال، ووضعوا ضوابط لهذا القياس منها اطراد الجامع، فذكر أن احتمال كون العالم في الشاهد معللاً بالعلم، أو مشروطاً به لكونه جائزاً، لا يستلزم منه أن يكون الغائب كذلك، فالمعنى الذي ذكر في الشاهد غير موجود في الغائب، فلا يلزم التعدية، أو بمعنى آخر لم يطلع عليه، ولا يلزم من عدم العلم به وبدليله العلم بعدمه.
يقول الدكتور حسن الشافعي: «وهكذا يشكك الآمدي في قيمة هذا القياس أياً كان الجامع المزعوم بين الشاهد والغائب، أما طريقة الاسفرايني في قياس الغائب على الشاهد بمجرد التلازم، أو التشابه في الحصول ولو لم يتحقق جامع (فيلزمه عليها أن يكون الباري- تعالى- جوهراً ضرورة كونه قائماً بنفسه لضرورة التلازم بينهما في الشاهد، فإن كل قائم بنفسه في الشاهد جوهر قائم بنفسه ولا محيص له عنه) ولكن هذا ظاهر البطلان».
وذلك انتقد هذا القياس أيضاً عددٌ كبيرٌ من المحققين منهم ابن رشد الفقيه الفيلسوف الذي رفضه مطلقاً واتخذ من رفضه له أساساً لمحاولته التوفيق بين العقل والدين متمسكاً دائماً بقوله تعالى «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير» واعتبره ابن حزم- كما سبق- خطأ وضلالاً مبيناً، وقال الإمام الجويني في شأنه: إنه لا الأصل له وقال الغزالي: «لا خير في رد الغائب إلى الشاهد….فأعيان الشواهد تشتمل على صفات خفية فلذلك يجب اطراح الشاهد المعين»، ثم قال: «هذا كله في إبطال التمثيل في العقليات، فأما في الفقهيات فالجزئي المعين يجوز أن ينقل حكمه إلى جزئي آخر باشتراكهما فيوصف….إذا دل عليه دليل…».
فالاعتماد على هذا الأصل الفاسد هو الذي ترتب عليه كل هذه المفاسد العقائدية، بل أكثر من ذلك وإن المجسمة الذين قالوا بالتجسيم لله تعالى انطلقوا من هذا الأصل الفاسد أيضاً.
وسبب هذه الأخطاء كلها هو الخلل في الميزان الذي يخص الخالق الذي لم نره، وميزان المخلوق- كما سبق- ولو كان هناك الفقه بالميزانين لما وقع هذا الخلل في الفهم والتصوير والأحكام.
فميزان الغيب المطلق يقتضي نقلاً وعقلاً الكف عن الخوض في عالم الغيب ولا يذكر عنه شيء إلاّ ممن هو العالم بالغيب وهو الله تعالى، وذلك لأن العقل مهما تطور فلن يستطيع الوصول إلى العلم اليقيني بحقيقة الغيب المطلق مثل: حقيقة الإله وكنهه، وعالم الجن والملائكة، والجنة والنار، والعذاب في القبر ونحو ذلك، فلا يجوز إصدار أحكام فيها بناءً على مشاهدتنا للموجودات التي نشاهدها.
فدور العقل في الغيبيات هو الوصول بالاستدلال وطرقه المختلفة إلى وجودها والإيمان بها وبالمبادئ العامة لها، أما حقيقتها وكنهها المعين فلا يستطيع الوصول إليها إلاّ من خلال قياس الغائب على الشاهد وهو قياس فاسد باطل- كما سبق- وذلك لأن هذه التفاصيل لا تدرك إلا بالحواس والمشاهدة، أو بالقياس عليها، وبما أن الغيب لم يشاهده أحد، ولم يطلع عليه فكيف تذكر له صفات خاصة به؟.
ب- ميزان النقل.. وميزان العقل
ومما يرتبط بهذا الباب هو فقه ميزان العقل، وميزان النقل، وأن الخلط بينهما أدى إلى التقليل من شأن أحدهما، أو تغييبه على حساب الآخر، فالعقل لا شك أنه أساس التكليف، وبدونه يرفع التكليف فلا تكليف إلاّ مع وجود العقل، وهو الأساس كذلك لفهم نصوص الشريعة حسب قواعد اللغة العربية، ودلالاتها المختلفة، وللاجتهاد عن طريق القياس والاستحسان والمقاصد ونحوها، حيث لا يتم الاجتهاد إلاّ باستعمال العقل في خدمة النص والاستنباط منه والقياس عليه،… إلخ.
والعقل له دور أساس في الاستدلال بطرقه المختلفة المتنوعة للوصول إلى الإيمان بالله وصدق الرسول، والرسالة، وهو الأساس فعلاً لصحة الإيمان.
أما النقل الصحيح (المتمثل في القرآن الكريم كله، وفي السنة الثابتة) فدوره بيان ما يريده الله تعالى ورسوله من العباد من فعل الفرائض والواجبات، وترك المحرمات والمنكرات، وهداية الصراط المستقيم في جميع الأمور التي يحتاج إليها الإنسان، ولإسعاده في الدنيا والآخرة، وبيان طريق الشر والضلال وطرق المفسدين والضالين.
فالنقل دوره في بيان الغيبيات والتفصيل فيها بالمقدار الذي يحتاج إليه الإنسان، إذ لا طريق للعقل وحده للوصول إلى هذه التفاصيل الغيبية، وكذلك بيان العبادات والشعائر وتفاصيلها حسبما يريد الله تعالى كماً وكيفاً، إذ لا يستطيع العقل أن يعرف ما الذي يريده الله تعالى من عباده على سبيل التفصيل.
والخلط يقع حينما يستعمل العقل في المجال الذي هو خاصٌ بالنقل مثل تفاصيل الغيبيات، والشعائر (العبادات)، حيث حينما يدخل العقل في تفاصيل الغيبيات دون الوحي يضل طريقها، إذ لا هداية له ولا نور معه يضيء له الطريق، وكذلك حينما يحكم في تفاصيل الشعائر التعبدية مثل عدد الصلوات وركعاتها وكيفيتها، وما يخص تفاصيل الصوم والحج يدخل في عالم البدعة المبتكرة من الشرع التي وصفها بالضلالة، وكذلك حينما يُراد بالقوة إدخال موازين العبادات المحضة في العادات يحدث اضطراب- كما سيأتي- ويؤدي إلى الجمود والتكفير والتضليل دون وجه حق.
فلكل واحد من النقل الصحيح والعقل السليم مقامٌ معلومٌ لا يجوز تجاوزه، وهذا لا يعني أنه ليس بينهما تداخل، بل النقل يوضح الحكم الشرعي التكليفي لكل أنشطة الإنسان إما نصاً صريحاً، أو من خلال المبادئ العامة، أو استنباطاً عن طريق الاجتهاد (العقل)، كما أن العقل يدخل على النص من حيث الفهم والاستدلال، كما سبق.
وبسبب عدم الفقه في هذا الميزان لدي الكثيرين حدث خللٌ كبيرٌ في الأحكام والتصورات، فمنهم من اعتبر العقل هو الأساس الوحيد وأن النقل مهما بلغ فهو تابعٌ له، وقد ترتب على ذلك خطأ كبير وخطيئة عظيمة أدت إلى إهمال النصوص الشرعية، أو تأويلها دون مراعاة لقواعد صحة التأويل، كما حدث عند المعتزلة وغيرهم ممن أولوا الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة وأهملوها بسبب ادعاء العقل، حيث أولوا الآيات الواردة في رؤية الله تعالى مثل قوله تعالى: (وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة) وقد قال العرب إن النظر إذا اُستعمل بـ (إلى) يكون نصاً في الرؤية مع أن المعتزلة أولوها بالمنتظرة.
أما الحديث الصحيح المتفق عليه: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) فقد أهملوه وعطلوه بحجة أنه معارض للعقل.
وهذا كله ناتجٌ عن إدخال العقل فيما ليس من مجاله، وذلك لأن الصفات التي تتعلق بالله تعالى وحقائق ذاته لا تخضع لعقولنا، حيث يكفي لعقولنا أن توصلنا إلى الإيمان بالله تعالى، أما كيفية رؤية الله فتتم على الوجه الذي يليق بذاته دون تشبيه ولا تجسيم ولا تعطيل.
وعلى ضوء هذا الميزان لن يحدث تعارضٌ أبداً بين النقل الصحيح، والعقل السليم، حيث ناقش شيخ الإسلام، ابن تيمية، هذه المسألة في كتابه القيم: «درء تعارض العقل والنقل»، وذكر أن بعض علماء الكلام جعلوا قانوناً في ذلك وهو أنه إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية، والقواطع العقلية فوجب تقديم العقل، وأما النقل فإما أن يؤول، وإما أن يفوض إلى علم الله تعالى.
وقد رد عليهم شافياً كافياً وبين أن حجتهم داحضة، ثم توصل بعد مناقشات مستفيضة إلى أن هذا الاحتمال غير صحيح، وأن هذه الفرضية باطلة، فلا يوجد تعارض حقيقي بين النقل الصحيح والعقل السليم.
فالعقل البشري مهما بلغ فهو لا يقدر على اكتشاف كنه الغيب وتفاصيله ورسم طريق الهدى والحق والصواب وموجبات الإيمان، وإلاّ لم أرسل الله تعالى الرسل لإقامة الحجة؟!، كما قال تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً).
فليس دور العقل البشري أن يكون حاكماً على الشرع من حيث الصحة والبطلان بعد التأكد من صحته حسب هواه، فما قرره الله تعالى من العقائد والتصورات متى صح النص وكان قطعي الدلالة ولم يوقت فليس للعقل الحق في رفضه كلاً أو جزءاً، وإنما الشرع المنهج الصحيح للتلقي، والنظر.
كما أن دور العقل كبيرٌ وعظيمٌ في الوظيفة والرسالة التي خلق البشر لأجلها، وهي الاستخلاف وتعمير الكون على ضوء منهج الله من حيث الإبداع والابتكار، كما أن دوراً كبيراً في الاجتهاد في النصوص على ضوء القواعد المعروفة، وأن حريته مكفولة وأنه ليس هناك هيئة أو سلطة، أو شخص يملك الحَجر على العقل في إدراك المقصود بالنص الصحيح مادام نظره لم يخرج عن حدود الضوابط الصحيحة والمنهج الصحيح القائم على الثوابت.
فالإسلام دين العقل بمعنى أنه يخاطب العقل بقضاياه ومقرراته ولا يقهره بخارقة، ويخاطب العقل ويجعله مدار التكليف، ويكرمه ويجعله مناط التكريم والتفضيل للإنسان على غيره ممن خلق تفضيلاً، بل لا يقبل إلاّ الإيمان الذي قبله العقل واقتنع به.
وبسبب الخلط في هذا الميزان وعدم فقهه وقع خلطٌ كبيرٌ، وإفراطٌ وتفريطٌ، حيث نجد مَن قام بتأليه العقل البشري، فجعله حاكماً على كل شيء بما فيه الثوابت الدينية الصحيحة ومَن قام بإلغاء العقل البشري ودوره، حيث إن كليهما قد بعدا عن جادة الصواب، فالعقل لا يمكنه في إدراك كنه الغيبيات، والعبادات إلاّ عن طريق الوحي الصحيح الذي يرسم الطريق ويوضح الصراط المستقيم، ويقي العقل عيوب تركيبه الذاتي وعيوب الضغوط عليه من الأهواء والشهوات والنزعات، كما يكفل له استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، واستقامته السلوكية في واقع المعاش وفق شريعة الله، فالوحي هو مصباح العقل ونوره الذي يضيء له الطريق.
ج- الخلط بين ميزان الخير والقدر وميزان التكليف (الأوامر والنواهي)
ميزان الخير الثابت من الله تعالى قائمٌ على العصمة والصدق ووجوب الإيمان به ما دام صادراً من الله تعالى، ودور المكلف هو الإيمان به فقط، وكذلك ما يتعلق بالقضاء والقدر، حيث على المؤمن أن يؤمن بذلك إيماناً صادقاً قبل الوقوع، وبعد الوقوع يضيف إلى الإيمان به الصبر والتسلية على اعتبار أن ذلك كان مقدراً، وأن الخير فيما اختاره الله تعالى له سواء كان لدينه أو دنياه فيزداد قدرةً على الصبر والتحمل (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم).
ولا يجوز تبرير ارتكاب المنكرات والقتل والفسق والفجور بأن ذلك كان مقدراً، لأن هذا المقدر في علم الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى، والإنسان مكلفٌ بتنفيذ ما أمر به أو نهى عنه رب العالمين.
أما ميزان التكليف من الأوامر والنواهي فهو قائمٌ على التنفيذ إذا توافرت الشروط المعتبرة في التكليف.
وبالتالي فلا تعارض بين الميزانين، فميزان الخير والقدر خاص بعلم الله تعالى وقدرته وإرادته ولسنا مكلفين فيه إلاّ بالتصديق بذلك والرضا بنتائجه، والشكر على ما يظهر لنا من خير، والصبر على ما يظهر لنا من بلاء وشر، وميزان الأوامر والنواهي قائمٌ على وجوب التنفيذ مادام المكلف قادراً على التنفيذ وتوافرت بقية شروط التكليف، فلا تناقض ولا تعارض بين التصديق والتنفيذ.
ومن هنا فالفقيه بالميزانين تكون رؤيته واضحة، وعمله لا لبس فيه ولا تردد، ويبذل كل جهده للخير (اعملوا فكلٌ مُيَسَّرٌ لما خُلق له).
أما مَن لم يكن لديه هذا الفقه، فهو يضطرب فكره ويخلط بين الأخيار والأقدار الإلهية، وبين التكاليف الشرعية، فمثلاً قوله تعالى بخصوص المسجد الحرام: و«مَن دخله كان آمناً»، فهذه الآية وإن جاءت في صيغة الخير ولكنها تكليف شرعي لأولياء الأمر بالسعي الحثيث لجعل كل مَن يدخله آمناً، وقد فهمه البعض أنه خير، ولذلك ظن أن من يدخل الحرم يصبح آمناً بقدر الله تعالى، وبالتالي يقف حائراً أمام ما حدث من الهجوم على الحرم الشريف وقتل مَن فيه أكثر من مرة سواء أيام استشهاد عبدالله بن الزبير أم في العصور المتأخرة.
وهذا خلل في فقه الميزان، حيث إن هذه الآية تدخل ضمن ميزان التكليف، وليس في ميزان الخير والتقدير، وهكذا….
هذا والله أعلم وهو الموفق والمستعان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم