فتوى حول :

تعجيل الزكاة لمدة سنة في حالة الوباء أفضل من انتظار الشهر الفضيل

إن مما لا شك فيه أن الله تعالى فرض الزكاة لإزالة الفقر والحاجة وتحقيق التنمية البشرية ، وجعلها ركناً من أركان الإسلام لتحقيق التكافل الاجتماعي، ولم يترك أمرها لإرادة الأغنياء، بل جعلها حقاً معلوماً للمستحقين دون منّ ولا أذى حماية لكرامة الإنسان التي هي من أعظم مقاصد الشريعة ، ولذلك جعلها الله تعالى مؤسسة مستقلة تحت إشراف الدولة (العاملون عليها) .

وقد شاء الله تعالى أن تكون الزكاة متناسقة مع نسبة الفقر ، ومتناغمة ، بحيث لو أديت لما بقي فقير واحد ، وهذا ما طبق في عصر عمر بن عبدالعزيز – على الرغم من عمر خلافته القصير- ، قال يحيى بن سعيد : (بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقيا، فَجَبَبْتُها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، وقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت رقاباً، فأعتقتهم…) [1] .

وقد قمت بدراسة علمية عام 2007م لمعرفة مقدار الزكاة في الدول الخليجية ، وبقية العالم الإسلامي، فتوصلت إلى أن الزكاة الواجبة في أموال الشركات والبنوك ونحوها في الدول الخليجية تصل إلى 100 مليار دولار ، وأنها في بقية العالم الإسلامي بين 300 أو 400 مليار دولار ، فلو  جمع هذا المبلغ (400 مليار دولار على الأقل) سنوياً وتم صرفه بشكل صحيح لم يبق فقير في العالم الإسلامي ، وتحققت الرفاهية أو ما يقوله الفقهاء تمام الكفاية للجميع.

وعموماً فإننا نحن المسلمين مسؤولون أمام الله تعالى عن فقرائنا فقد وردت أدلة كثير على أنه ما من مسلم يموت جوعاً إلاّ ويسأل عنه بقية المسلمين[2] .

 

وباء "كورونا" وزيادة فقر الفقراء:

أدى وباء كورنا إلى تفاقم الفقر في العالم الإسلامي وبخاصة في الدول التي تفشى فيها، حيث تم حظر التجوال ، وإغلاق معظم المناطق الحيوية ومجالات العمل، مما أدى بلا شك إلى زيادة حاجتهم إلى الأموال لشراء حاجياتهم الضرورية، فازداد على ضعفهم وفقرهم مشكلة المرض ، أو احتمالية المرض، وعدم العمل مع كثرة أعباء الحياة.

 

تعجيل الزكاة:

وبناء على ذلك فإنه يجوز تعجيل الزكاة لسنة أو أكثر أو أقل لوجود أدلة من السنة عليه – كما سيأتي- ما دام المزكى يملك النصاب  ، لأجل مصلحة الفقراء كما هو الحال اليوم ، فإذا بلغ المال النصاب (وهو قيمة 85 جراماً من الذهب الخالص، أي في حدود 3,640 دولار بسعر اليوم 27 مارس2020م) يجوز لصاحب المال تعجيل إخراج الزكاة .

وهذا رأي جماهير الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة ، ومروي عن بعض الصحابة منهم سيدنا علي رضي الله عنه ، وعن الحسن البصري وسعيد بن الجبير ، والزهري ، والأوزاعي ، وقول اسحاق بن راهويه ، وأبي عبيد القاسم ابن سلام ، وغيرهم[3].

ويدل على ذلك مجموعة من الأدلة، منها:

1- حديث عليّ رضي الله عنه أن: (العباس بن عبدالمطلب عمّ الرسول صلى الل عليه وسلم سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ، فرخص له في ذلك) وقال مرة: (فأذن له في ذلك) رواه أبو داود ، وقال ابن بطال (حديث صحيح)[4] ، ورواه الترمذي ، وذكر بأن عليه أكثر أهل العلم ، ورواه أحمد وابن ماجه ، ورواه الطبراني والبزار[5] ، وقال النووي: (إسناده حسن) [6] ، وكذلك قال الإمام البغوي في شرح السنة[7]، وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (إسناده صحيح) [8] فالحديث إما صحيح أو حسن ينهض حجة عند أهل الفقه والحديث، وتؤيده الشواهد والمتابعات[9].

2- ما رواه الترمذي وأبو داود بسندهما إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: (إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام)، قال الترمذي : (وفي الباب عن ابن عباس ، قال أبو عيسى: (…وحديث إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عندي أصح من حديث اسرائيل عن الحجاج بن دينار ، وقد روى هذا الحديث عن الحكم بن عتيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .. ثم قال : (وقال أكثر  أهل العلم: إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه..) [10]، وهو حديث حسنه الألباني وغيره[11] .

 

 

3-  ومما يؤيد جواز تعجيل الزكاة أن معنى الحديثين السابقين ورد في الصحيحين ، قال النووي – بعد أن ذكر أن حديث عليّ إسناده حسن-: (واحتج البيهقي والأصحاب للتعجيل بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة ، فقيل منع ابن جميل ، وخالد بن الوليد ، والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أَدْرَاعَهُ وَأَعْتدهُ في سبيل الله ، وأما العباس فهي عليّ ، ومثلها معها..) رواه البخاري ومسلم[12] ، وقال النووي: (والصواب أن معناه – أي معنى هذا الحديث- : (تعجيلها منه) [13] وقد جاء في حديث آخر عن عليّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنا كنا احتجنا فأسلفنا العباس وصدقة عامين) [14].

وللأدلة الواضحة على جواز تعجيل الزكاة قال صاحب التحفة : (وهو الحق) [15].

 

والخلاصة؛

أن الصحيح الراجح هو جواز تعجيل الزكاة لعام أو عامين حسب حاجة الفقراء عن جميع الأموال الحولية[16] التي بلغت النصاب من الذهب والفضيلة والنقود والأنعام (المواشي) وعروض التجارة ونحوها .

 

بل إن تعجيل الزكاة اليوم في ظل هذا الوباء القاتل الذي عطل معظم الأعمال ، وجعل حاجيات الفقراء مضاعفة ، وظروفهم أكثر صعوبة ، أصبح من المستحبات ، وأفضل من التأخير لشهر رضمان الفضيل ، لأن شدة الحاجة مقدمة على فضيلة الزمن، وأن أفضل الصدقات والزكوات هي الصدقة الخالصة لله تعالى التي تؤدي إلى إنقاذ الفقراء دينهم، أو أنفسهم أو أعراضهم، فقال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[17]  ثم الصدقة التي تعطى لمن هو أحوج، كما أن الأفضل هي أجود الصدقات ، وأحبها إلى صاحبها فقال تعالى:

 

(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)[18]، كما أن أفضلها أن تصل إلى مرحلة الإيثار فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ  وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[19].

لذلك ندعو أهل الخير جميعاً لتعجيل أدء زكواتهم بل للإيثار بكل ما يمكنهم لإنقاذ هؤلاء المستحقين في ظل الأوبئة والفتن والبلاء العام، فقال تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ  وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[20]

 

هذا والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 


([1]) فتوح البلدان للبلاذري (11/273)  

([2]) هذا إشارة إلى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده 4880 وأبو يعلى 5746 وأبو نعيم في حلية الولياء (6/101) بسندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (وإيما أهل عرصة ظلّ فيهم امرؤ جائعاً ، فقد برئت منهم ذمة الله عزوجل)

([3]) يراجع: فتح القدير (1/517-518) وشرح المنهاج للمحلي (2/44-45) والمغني لابن قدامة (2/629-631) وبداية المجتهد (1/266)   

([4]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (3/502)

([5]) رواه أبو داود 1624، والترمذي 678 وابن ماجه 1795 وأحمد 822

([6]) المجموع (6/144)

([7]) شرح السنة للبغوي (3/339)

([8]) مسند أحمد (2/141)

([9]) صحيح الترمذي للألباني 679

([10]) سنن الترمذي 879

([11]) وهذا ما ذكره الحافظ ابن حجر كما في الفتح الباري (4/76) ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1624 

([12]) صحيح البخاري الحديث 468 ، وصحيح مسلم 983 

([13]) شرح صحيح مسلم للنووي (3/49)  

([14]) رواه البيهقي (4/111)  والترمذي 3760 واحمد (1/94) ورجاله ثقات ، ولكن فيه انقطاعاً غير أنه قال بعض جهابذة الحديث : إنه بكثرة طرقه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تقدم من العباس زكاة عامين ، يراجع سبل السلام للصنعاني (2/206) ، وقال الشيخ الألباني : (وهو الذي نجزم به لصحة سنده مرسلاً ، وهو يتقوى بهذه الشواهد ، ويرتقي بها إلى درجة الحسن على أقل الأحوال) إرواع الغليل (3/49) .

([15]) تحفة الأحوذي (3/286) شرح الحديث 679

([16]) أي التي يشترط في وجوبها حولان الحول ، يراجع المجموع للنووي (6/160)

([17]) سورة المائدة/ الآية 32  

([18]) سورة آل عمران/ الآية 92

([19]) سورة الحشر / الآية  9

([20]) سورة محمد / الآية 38