كتب الأستاذ داود الشريان في مقالته اليومية بالحياة بتأريخ 11 يونيو2015 بالعنوان العريض : أضعف الإيمان (القره داغي يدّعي علم الغيب) هذا هو العنوان ، وهو عنوان لا يتناسب حتى مع ما ذكره عن بحثي ، حيث قال الشريان : ( على القره داغي .. قال : ( إن القرآن تنبأ في آياته بالأزمة المالية العالمية … بسبب الربا السائد…) مما يدل بوضوح وبدلالة قطعية أن التنبأ للقرآن الكريم وليس لعلي القره داغي ، ثم نقل عني حول الاعجاز العلمي الاقتصادي في القرآن الكريم ، ثم انتقد هذه الفكرة – كما سيأتي-

ولنا مع هذه المقالة الوقافت الآتية :

الوقفة الأولى : إن هذا العنوان يحمل بوضوح الحكمَ عليّ بالفكر، من حيث يدري الشريان أولا يدري ، لأن من ادعى علم الغيب فهو كافر ، فقد قال تعالى : (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل : 65] وقال تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن :26- 27] وقال تعالى : (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ) [الأنعام : 50] ، والأحاديث على ذلك أكثر من أن تحصى.

فهذه المسألة مما علم في الدين بالضرورة وعليها إجماع علماء المسلمين من أن علم الغيب هو لله وحده ، وإذا أراد أن يطلع أحداً من رسله فلله الأمر والحكم ، وأجمعوا على أن من ادّعى علم الغيب فهو كافر لأنه مكذب لعدد كبير من هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المطهرة وإجماع الأمة.

فهل يريد الأستاذ الشريان أن يحكم عليّ بالكفر ، وأنا مسلم لله تعالى ، ومؤمن إيماناً قاطعاً بأنه : لا يعلم الغيب أحد إلاّ الله تعالى ، وأقول : (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور : 16].

وبالتالي فأصبح مفتياً للتكفير ، والتحق بالمفتين التابعين للمتطرفين التكفيرين الذين يكّفرّون بعض المسلمين؟ لأن التكفير هو منهج الخوارج والمتطرفين ، وليس منهج السلف الصالح وأهل السنة أجمعين.

إن ما قاله الأستاذ الشريان قول خطير جداً وهو تكفير لأحد المسلمين ، بل للأمين العام الذي ارتضاه آلاف من علماء المسلمين ليكون أميناً للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين – لذلك نطلب منه الاعتذار الشديد لعلماء المسلمين ، وللمسلمين ، وإعلان ذلك- ، وهو أيضاً افتراء عليّ وزور بغير وجه حق فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النور : 19] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب : 58] قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم..) ثم ذكر : (إن هؤلاء جهلة منكسو القلوب : يذمون الممدوحين عند الله تعالى ، ويمدحون المذمومين).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون ما الغيبة ؟) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : (ذكرك أخاك بما يكره) ثم قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه). رواه مسلم

إن إسناد قول فيه كفر إلى أحد المسلمين ليس بالأمر الهيّن ، بل يجب التثبت منه ، بل هو حكم بمثابة الحكم القضائي الذي يحتاج إلى بيّنات واضحات مثل الشمس ، وإلاّ فيكون افتراءً وإثماً عظيماً.

الوقفة الثانية : يهاجم الشريان (الإعجاز العلمي في القرآن) فقال : ( وهو علم مزيف ، وقائم على الوهم ، وهو تغييب للعقل ، وتشويه للعقيدة ، ومؤشر إلى هزيمة حضارية وفكرية ، الأكيد أن تفسير القرآن بهذه الطريقة خطأ في أحسن الأحوال ، وخطر في الأسوأ..) ثم شبه ذلك بفكرة خلق القرآن.

والذي نلاحظ عليه في هذه المسألة ما يأتي :

1- أن احترام التخصص مطلوب ، فالأستاذ الشريان أصبح مفتياً يفتي بالكفر ، ثم هنا يصبح عالماً في العقيدة والتفسير فيحكم حكماً قاطعاً بأن الاعجاز العلمي في القرآن الكريم علم مزيف..الخ ، وأنه خطأ وخطر، وانه شبيه بخلق القرآن الكريم ، وأنه تشويه للعقيدة .

وكنا نتوقع منه أن لا يصل كلامه إلى الحكم القاطع .

2- أن كل ما حكم به حول (الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) لم يكن صحيحاً عند جمهور العلماء المتخصصين ، وهذا العلم منضبط بضوابط محددة ، وليس قائماً على الوهم ، وأنه قد ثبتت فوائده على عامة الناس وعلى علمائهم ، وأسلم بسببه الكثيرون .

ولو حضر الأستاذ الشريان المؤتمر الأخير للإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي عقد في مدريد لتغيّر رأيه ، حيث جاء علماء كبار متخصصون فأثبتوا لنا قضايا علمية نستفيد منها في الحكم الشرعي ، فمثلاً أن الرضاعة بعد الحولين من عمر الرضيع لماذا لا تحرم؟ فأثبتوا أنها لا يبقى لها دور في النمو والعظام بعدهما ، بينما يحمل حليب الأم خلال الحولين بين طياته الخلايا الجذعية التي تدخل في صنع العظام واللحم ، وفتق الأمعاء.

وهنا استفدنا كثيراً من هذه المعلومة في الجانب الفقهي ، وهكذا بقية المعلومات العلمية التي تناولها هذا المؤتمر ، وبقية المؤتمرات السابقة ، حيث كانت غرة في جبين هيئة الإعجاز العلمي التابعة لرابطة العالم الإسلامي.

3- وأؤكد على أهمية الصدق والتثبت في النقل ، وعدم إلقاء الأحكام الجائرة جزافاً ، واحترام مهنة الإعلام ، وبخاصة الصحافة في توجيه الأمة إلى الخير ، والوحدة والسلوك الحضاري ، فما أحوج أمتنا إلى لمّ الشمل وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف ومواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه أمتنا في الداخل والخارج .

فالمفروض أن تصرف جهودنا كلها في مواجهة هذه التحديات ، وليست في التفريق والافتراء والبهتان ، ولا سيما على أهل العلم الذي يتبنون المنهج الوسطي المعتدل . سبحان الله فإن العلماء المعتدلين (أصحاب المنهج الوسط) يقف ضدهم المتطرفون المتشددون ممن ينتسبون إلى فكر الغلو في الدين ، والمتشددون الذي يسمون أنفسهم بالعلمانيين ، وبالتالي فالمتطرفون من كلا الفريقين المتضادين (في الظاهر) يحاربون الوسطية الحقيقية ، ويقدمون خدمات جليلة لأعداء الأمة ، ويساهمون في هذه التفرقة والتمزق الذي وصلت إليه الأمة .

والله المستعان