بقلم – أ.د. علي محيي الدين القره داغي
جريدة الوطن – الدوحة
مشكلة الفقر
الفقر في اللغة: هو الحاجة، والعوز، فالفقير هو المحتاج مطلقًا.
وجمهور الفقهاء أجمع على أن الفقراء والمساكين هم أهل الحاجة الذين لا يجدون ما يكفيهم، وهما من الكلمات التي إذا ذكرتا معًا يراد بكل واحدة معنى مستقل، وإذا انفردتا شملت كل واحدة معنى الأخرى مثل الإيمان والإسلام، فإذا أطلق لفظ «الفقراء» وحده فيراد به ما يشمل معنى المساكين أيضًا، ولكن إذا ذكر مع «المساكين» فيراد بالفقراء معنى، وبالمساكين معنى آخر، مثل قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ»؛ فقد ذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك شيئًا دون النصاب الشرعي للزكاة، وأن المسكين لا يملك شيئًا، فعلى ضوء هذا فإن المسكين أشد حاجة من الفقير، في حين أن المالكية والشافعية والحنابلة ذهبوا إلى عكس السابق، فيكون الفقير أشد حاجة من المسكين.
والحق أن القرآن الكريم استعمل اللفظين معًا في الآية السابقة فقط؛ مما يدل على وجود فرق بينهما، وأن كل واحد منهما مصرف مستقل من مصارف الصدقات، وتكرر لفظ الفقر ومشتقاته فيه أربع عشرة مرة منفردًا، في حين تكرر لفظ «المسكنة، ومسكين، ومساكين» خمسًا وعشرين مرة، ولذلك تطبق عليهما القاعدة السابقة في الجمع، والانفراد.
ونحن في هذا المبحث نقصد بالفقير: المحتاج إلى الضروريات، أو الحاجيات، من الغذاء والدواء والمسكن، والملبس ونحو ذلك، مع ملاحظة نسبية الفقر ونسبية الضروريات والحاجيات، وتأثرها بالأعراف.
فقد أشار القرآن الكريم إلى الحاجيات الأساسية للإنسان فقال تعالى: «إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى».
أنواع الفقر ودرجاته
للفقر أنواع ودرجات متدرجة، وهي:
1 – الفقر المطلق الذي يستند إلى معيار حدّ الأقل من المطلوب من مستويات الاستهلاك لسد الحاجات الأساسية، فالفقر بهذا المعنى هو الحرمان من الموارد الاقتصادية التي تمكنه من إشباع حاجاته الأساسية بنحو ملائم، وبعبارة أخرى فإن خط الفقر المطلق يساوي إجمالي تكلفة سلة السلع المطلوبة لسد الاحتياجات الاستهلاكية الأساسية.
2 – الفقر النسبي الذي يتغير بتغير الدخل من بلد إلى آخر، ومن وقت لآخر معتمدًا على كلف إشباع الحاجات المختلفة، فعلى ضوء الفقر النسبي قد يكون الفقير في بلد ما غنيًا بالنسبة لبلد آخر، فيمكن أن ينطبق المسكين بالمعنى الذي ذهب إليه الحنفية مع ما يسمى بالفقر النسبي.
3 – الفقر المدقع، وهو الذي يساوي الحد الأدنى من السلع الغذائية الأساسية التي لا يمكن دونها البقاء على قيد الحياة إلاّ لمدة قصيرة، وهو الذي فسره الحنفية، كما سبق.
4 – الفقر المعدم الفاقة وهو أن لا يوجد مع الفقير أي شيء يذكر، ويسمى كذلك الفقر المزري أو الحالة المزرية.
مقياس الفقر
حاول كثير من الباحثين وضع معيار ومقياس للفقر، ولكن محاولاتهم قد اكتنفها كثير من الصعوبات بسبب مفهوم الفقر، وتنوعه، وتغيره، فقد اعتمد بعضهم على معيار الدخل بوصفه يعكس القدرة على شراء كمية معينة من السلع والخدمات، غير أنه واجه مشكلات عملية، ونظرية، فالعملية تكمن في أن الحصول على بيانات دقيقة عن الدخل ليس ميسورًا، ومن الجانب النظري تبرز مشكلة تحديد مستوى الدخل الذي يمثل الحد الفاصل بين الأسرة الفقيرة وغيرها، ولكن الضابط الوحيد هو الحاجة لسد كل ما هو ضروري.
وقد استخدمت المنظمة الدولية في بيان معرفة الفقر ما سمته «دليل الفقر البشري» الذي يركز على نواحي الحرمان من ثلاثة أبعاد أساسية وهي: طول العمر، والعلم والمعرفة، ومستوى المعيشة اللائق، فالحرمان من طول العمر موت الأطفال من دون سن الخامسة، والكبار في سن الأربعين بسبب عدم وجود التكافل الصحي، فقرٌ أيضًا، وكذلك الحرمان من العلم والمعرفة والثقافة بسبب عدم وجود المال اللازم له فقرٌ، إضافة إلى مستوى المعيشة اللائق من الناحية المادية الشاملة للحاجات الأساسية بما فيها المياه النظيفة المأمونة. وفي نظري أن هذا المعنى الشمولي للفقر الشامل للجوانب العلمية والثقافية، والصحية إضافة إلى الجانب المادي قد سبق به الإسلام، ولذلك أجاز العلماء الزكاة لطالب العلم، وان الكتب مهما كثرت فلن تمنع الزكاة إلى صاحبها.
هل الفقر لايزال مشكلة مع هذا التقدم الهائل، وهذه الثروة العظيمة؟
ومع هذا التقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا، والثراء الفاحش لبعض الأفراد والشركات والدول، فإن الفقر لايزال يضرب بأنيابه نسبة كبيرة من بني البشر، بل لايزال في ازدياد، فقد كانت دراسات البنك الدولي في عام 1987م تشير إلى أن عدد الفقراء في العالم يتوقع أن يهبط من 950 مليونًا في الوقت الحاضر إلى 260 مليونًا فقط بحلول عام 1999، ولكن مع الأسف الشديد ازداد الفقراء في العالم بشكل أكبر بل دخلت بعض الدول والشعوب في عداد الدول والشعوب الفقيرة، فمثلاً لم يكن في حسبان أحد أن يدخل الشعب العراقي في عداد الشعوب الفقيرة بسبب الحروب التي خاضها النظام السابق ضد شعبه وضد إيران، ثم احتلال الكويت، وإخراجه منها، ثم الحصار المفروض على العراق، ثم الاحتلال الأميركي في عام 2003م، والوضع الكارثي الحالي.
وفي مصر تشير الدكتورة كريمة كريم إلى أنه في عام 1981 -1982 كان مدى انتشار الفقر يقل بدرجة قليلة في القطاع الحضري، أما في عام 1990 -1991 فقد تجاوز الفقر في القطاع الريفي نظيره في القطاع الحضري بكثير حتى وصل إلى 100% وكذلك زاد في الحضر بنسبة 20%.
وكذلك زاد عدد الفقراء في الأردن 1986 -1992 بنسبة 11.5% وارتفعت فجوة الفقر بمقدار 3.4% كما ذكر ذلك تقرير البنك الدولي.
وتشير الإحصاءات إلى أن اتجاه معدلات الفقر في تونس يسير نحو الارتفاع في الفترة 1990 -1995، وصاحبه انخفاض في الإنتاج الزراعي بمقدار كبير، وأن 70% منهم من أهل الريف.
وفي المغرب قام البنك الدولي بإبراز ثلاثة تقديرات لحالة الفقر المدقع:
الأول: بنى على المتوسط غير المعدل لمسح استهلاك الأسرة، ووفقًا لذلك فإن نسبته 13.1% من الفقراء بين عامي 1990 -1991
الثاني: بني على تعديل متوسط مسح عام 1984 -1985 حيث النسبة 21% من جملة السكان.
الثالث: بنى على متوسطي المسحين السابقين فإن الفقر يشكل 17.5% لعامي 1984 -1985، و14.6 لعامي 1990 -1991.
ويعقب الدكتور الفارس على هذا التقرير بأنه لو تم رفع خط الفقر من 1500 درهم إماراتي إلى 3000 درهم لوصلت نسبتهم إلى 21% من جملة السكان.
وأما الفقر في العراق فقد كان منخفضًا في الستينيات، وبداية السبعينيات ثم وصلت نسبته في عام 1993 إلى 72.1% في المناطق الحضرية، و81.8% في المناطق الريفية.
وفي لبنان كان الفقر منخفضًا جدًا في فترة الستينيات، وبداية السبعينيات، ثم جاءت الحرب الأهلية، فوصلت النسبة إلى 57% من جملة السكان في عام 1987، ثم وضعت الحرب أوزارها فشهد لبنان تطورات اقتصادية جيدة انخفضت فيها نسبة الفقر، ولكن الاعتداء الإسرائيلي في صيف عام 2006 ثم الاعتصامات في الوسط التجاري والسياحي في بيروت في عام 2007م قد شلت الحركة الاقتصادية، وبخاصة السياحة.
والأمر في الدول العربية الأخرى – ما عدا الدول الخليجية – ليس أحسن مما ذكرناه.