صحيفة الوطن – قطر
يواصل د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا فيه عبر الحلقة الماضية (تحول الازمة المالية الى ازمة اقتصادية) وعرضنا اسس انهيار الرأسمالية في الأزمة العالمية، وفي هذه الحلقة يستكمل فضيلته الحديث عن اسباب الاعصار المالي المسبب للازمة العالمية:

تعتبر من أهم أسس النظام الرأسمالي بحرية المشروع سواء كان مشروعاً خاصاً، أو عاماً يخص الدولة، أو تعاونياً، أو حرية المبادرة الفردية، وهي تعد ركناً جوهرياً فيه، وهي تعني حق كل فرد في توجيه جهوده وأمواله الوجهة التي يريدها، وبالطريقة التي يختارها دون أن يكون مجبراً ـ كما كان الحال في المجتمعات السابقة ـ.

وتعد حرية المشروع ذات أهمية حيوية للاقتصاد الرأسمالي من حيث ان المالك حرّ في اكتشاف فائدة له في الحصول على عوامل الانتاج واستخدامها من أجل تحقيق أي نشاط يختار، ومن حيث حرية عوامل الانتاج وحرية مالكيها، وحرية العامل في اختيار أية مهنة، أو نوع من العمل يروق له دون أن يفرض عليه عمل ما فرضاً عن عمل معين، ومن حيث حرية المنظم في كيفية إدارته للمشروع، إضافة إلى تشجيع حرية المشروع على الاختراع والتجديد، ومن حيث حرية المستهلك في الاستهلاك والشراء، وهكذا الأمر بالنسبة لبقية أنواع النشاط الاقتصادي.

وهذه الحرية قد مُسّت تماماً في هذه الأزمة ـ كما شهدناه ـ

ثالثاً: قانون العرض والطلب الخاص بنظام السوق الحرة والأثمان:

وهذا لم يبق له تأثير اليوم ولم يحقق غرضه المنشود، الذي يقوم على أساس أن هذا القانون قادر على تنظيم السوق دون تدخل من الدولة، وذلك لأن للأسواق الحرة دوراً كبيراً في النظام الرأسمالي حتى يجتمع فيها العارضون للسلع أو الخدمات أو أي عامل من عوامل الانتاج مع الطالبين لها، حيث ينتج من هذا التلاقي ثمن محدد يعبر عن قيمة السلعة أو الخدمة، أو عامل الانتاج.

وبهذا التلاقي في السوق يتحدد الثمن، ويتحقق التوازن بين الانتاج والاستهلاك في كل فرع من فروع الانتاج، حيث يلعب فيها قانون العرض والطلب الدور الأكبر في تحديد الثمن والتوازن عن طريق التغير في أثمان السلع والخدمات، وكذلك فيما يخص مستويات الأجور، وهي ثمن قوة العمل، وهكذا الأمر بالنسبة للواردات والصادرات.

وجدير بالإشارة ان قانون العرض والطلب لم يستطع أن يلعب دوره الذي وضع له في التحكم في الأسواق ـ كما هو الواقع المشاهد اليوم ـ.

رابعاً: ان المنافسة بين مختلف الوحدات الاقتصادية، لم تحم السوق ولا المؤسسات ولا العمال من الاستغلال والانهيار:

والمقصود بذلك: المنافسة بين البائعين للسلع والخدمات، والمشترين، وبين الراغبين في العمل، وبين أصحاب الأعمال المحتاجين إليه، وبين المقترضين والمدخرين، وبين مالكي مصادر الثروة الطبيعية وبين رجال الأعمال، وبين أصحاب الشركات، والمنظمين لها، وهكذا…..

وحتى تكون المنافسة حقيقية يشترط توافر عدة شروط منها: وجود عدد كبير من المشروعات جهة، وعدد كبير من العارضين والطالبين المستقلين من جهة أخرى دون وجود اتفاق بينهما فيما يتعلق بحجم الانتاج أو المبيعات، أو المشتريات، أو الأثمان مع وجود إلمام بها.

ومنها العلم الكامل بالظروف المحيطة بالسوق، وبالسلعة والخدمات، وعامل الانتاج.

ومنها تجانس السلعة في السوق الخاصة بها، ومنها حرية الدخول والخروج، وحرية الانتقال الكاملة.

والنظام الرأسمالي يفترض أن المنافسة بشروطها السابقة تحمي العامل من الاستغلال لأن له الحق في بيع مجهوده لمن يشاء وكيفما يشاء في ظل المنافسة، كما أنها تحمي المستهلك من تحكم المنتج، حيث توجد أمامه فرص، وفي الوقت نفسه تؤدي المنافسة إلى تطبيق القاعدة المعروفة القاضية بأن البقاء للأصلح.

فهذه المنافسة لأنها لم تكن معها القيم الأخلاقية، يشار إليها اليوم بأصابع الاتهام أنها تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا الاعصار.

خفاء اليد الخفية:

اعتمدت السياسات الاقتصادية الرأسمالية على ما يسمى باليد الخفية التي تعتمد عليها الرأسمالية في أحوال السوق، ويقصد بها أن حرية السوق ستوصل البوصلة إلى الهدف المنشود.

ولكن صندوق النقد الدولي الذي كان يطالب برفع أيدي الحكومات عن السوق عاد فتغير بسبب الأزمة، حيث دعا مديره دومينك شتراوس إلى تدخل الحكومات، وإعطاء صلاحيات أكبر للبنوك المركزية لضبط الأسواق والبنوك. nخامساً: أن الفوائد الربوية التي تعتبر من أهم أسس وخصائص النظام الرأسمالي أصبحت الآن تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية باعتراف جميع الاقتصاديين المنصفين، ولذلك نزلت أميركا نسبة الفوائد إلى الصفر تقريباً 0.25% بل إن الرئيس الأميركي المنتخب وفريق عمله يستعيدون نظرية كينز إلى الواقع والتطبيق، في أن النقد لا يلد نقداً، وأن الفائدة يجب أن تكون صفراً.

وبذلك تحقق التنازل عن هذا الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي في التوزيع حيث يقرّ بأن الفائدة هي من نصيب رأس المال النقدي عندما يعطى لشخص آخر. nأسباب الأزمة المالية الإعصار يكاد يتفق معظم الاقتصاديين والمفكرين والسياسيين على أن هذا الاعصار المالي (الأزمة المالية العالمية) ليس أحادية السبب، وان كان الربا ونظامه من أهم أسبابه، وإنما له أسباب كثيرة من أهمها ما يأتي:

أولاً: أسباب تعود إلى جوهر النظام الرأسمالي من الحرية المطلقة للفرد والملكية، وعدم وجود التوازن، وتشجيع الإنتاج والاستهلاك دون قيود، وعدم وجود القيم الأخلاقية الحاكمة ومن تشجيع الاحتكار، وتفشي الربا، ونحو ذلك من العيوب التي ذكرنها، إضافة إلى الفساد الاداري، والفساد الأخلاقي الاقتصادي من الغش والتدليس والاحتكار، والجشع وعدم الشفافية، ويكفي لبيان ذلك أن الرئيس التنفيذي لبنك ليمان براذرز قد أخذ نصف مليار دولار على انجازاته لعام 2007 ومع أن البنك كان خاسراً في حقيقته.

ثانياً ـ أسباب سياسية وعسكرية، حيث دخلت أميركا في حرب أعلنها جورج بوش الابن أنها الحرب العالمية الثالثة، واحتلت أفغانستان والعراق، ونجمت عن ذلك خسائر مادية وبشرية فادحة، والفوضى الخلاقة التي تبناها اليمين المسيحي المتصهين في أميركا.

أسباب الأزمة المباشرة:

تلك هي خلاصة ما وقع، والذي ينبغي التركيز عليه هو أن السبب ليس واحداً، وأنه لا ينبغي النظر إليه نظرة أحادية، أو أن يعالج العرض دون المرض، لذلك نذكر أهم الأسباب الأساسية المباشرة التي أدت إلى هذا الانهيار بشيء من التفصيل، وهي:

السبب الأول: الاقراض بفائدة، والتوسع بل الافراط في دائرة الائتمان وخلق النقود والائتمان، وبعبارة موجزة إن الربا بجميع أنواعه ومشتقاته المحرمات التجارية في الإسلام هي السبب الأول باتفاق العقلاء، وبخاصة ما سمي بأزمة الرهون العقارية التي أدت إلى ديون تقدر بـ «19» تريليون دولار. السبب الثاني: السياسة الاحتكارية وعولمة السوق:

أثبتت التجارب أن حرية السوق وقانون العرض والطلب وفلسفة الرأسمالية القائلة: دَعْهُ يَعْمَلْ، دَعْهُ يَمُر لم تحم الضعفاء وهم الكثرة بل أدت إلى احتكار السوق من قبل الأقوياء وتحولت الحرية فعلاً إلى حريتهم، وحمت الفلسفة الرأسمالية مصالحهم، وزاد الطين بلة ظهور العولمة، والشركات العملاقة العابرة للقارات وحرية التجارة الدولية، مما أدى إلى هذه الآثار الآتية:

1- انتهاء كثير من الشركات الانتاجية الصغيرة والمتوسطة.

2- تدخل دخل صندوق النقد الدولي في سياسات الحكومات في عالمنا النامي، حيث كان يطالبها عدم التدخل لصالح السوق، ويحنما وقعت الأزمة ألقى مدبرها اللوم على عدم تدخل الدول ؟!!.

السبب الثالث: الأسواق المالية، وبخاصة البورصات العالمية:

حيث توسعت في المضاربات التي بلغت إلى حدّ المغامرات، بل المقامرات من خلال السير إلى ما لا نهاية في المضاربات على الأوراق المالية، والسلع والخدمات، بل على المشتقات والاختيارات (Option) والمستقبليات (Futushres).

السبب الرابع: السياسات الاقتصادية النقدية والمالية العالمية وبخاصة الأميركية في العهود الأخيرة، فقد ظهرت في العقود الأخيرة سياسات مالية ونقدية تبنت ثلاث مقدمات أساسية خاطئة تؤدي بطبيعتها إلى أزمة مالية خطيرة، وهي:

‌أ) حوافز منبثقة عن سياسات ماكرو اقتصادية قائمة على أساس الفائدة التي هي عبء دون الربح الذي هو ناتج عن رأس المال والعمل والتنظيم، فأدى ذلك إلى وجود سيولة اتجهت إلى فقاعات الرهون العقارية وغيرها.

‌ب) تغيير في الأنظمة الرقابية، والتشريعات الضريبية وبخاصة في عهد جورج بوش.

‌ج) نمط جديد من العمل المصرفي، حيث تبنت البنوك استراتيجية جديدة قوامها زيادة الإنتاج، وارتفاع قيمة الأسهم. السبب الخامس: الفصل بين السياسات والإجراءات المالية والنقدية، وبين الاقتصاد الحقيقي والتنمية الشاملة.

السبب السادس: ضعف الرقابة المصرفية من قبل البنوك المركزية ولا سيما في أميركا لأسباب سياسية، وكذلك في العالم الثاني والثالث بضغط من صندوق النقد الدولي، والسماح للمؤسسات المالية وشركات الاقراض وصناديق التحوط تعمل دون الرقابة المطلوبة في مجالات الاقراض.

السبب السابع: صدرت كذلك بعض القوانين منذ عهد كلينتون عام 2000م ثم في عهد جورج دبليو بوش، التي حظرت على هيئات الرقابة التدخل في المشتقات المالية التي تباع للجمهور، وخففت من قيود المراقبة. السبب الثامن: تساهل شركات التصنيفات العالمية التي قامت بإعطاء الدرجات العالية للائتمان، مثل شركات موديز، وفيتش، وستاندر أندبورز، مما أدى ذلك إلى خداع الكثيرين.

السبب التاسع: الصين التي استعملت فوائضها في أسواق أميركا وبخاصة في المشتقات، وكذلك الصناديق السيادية في الخليج، حيث دفعت هذه الفوائض إلى فقاعة الرهون العقارية.

السبب العاشر: ثقافة الاستهلاك والتشجيع عليه بكل وسائل الترويج والتشويق والاثارة.

السبب الحادي عشر: الفساد المالي، وفساد الذمم، وعدم الاحساس بالمسؤولية، واللاأخلاقية لدى كثير من المؤسسات المالية، ونحوها من الغش والتحايل، ويكفي أن نذكر أن الرئيس التنفيذي لبنك ليمان براذرز قد حصل على نصف مليار دولار في آخر عام 2007م في مقابل الأرباح الوهمية، وأن برنارد مادوف، رئيس شركة بورصة نازداك NASDAQ الالكترونية قد استغل مركز المعلومات التي تحققت لديه، واستطاع من خلاله النصب على الناس بخمسين مليار دولار لا يعرف لها مصير، وقد حكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات.