تحدث الدكتور علي محيي الدين القره داغي، في الحلقة السابقة من احدث كتب الذي يناقش المشكلة الاقتصادية وحلها عن تعريف المشكلة الاقتصادية وتطرق الى الحاجات والمنافع، ويقول على ضوء ما سبق فالمنفعة في الاقتصاد الرأسمالي فردية، وليست مرتبطة بالقيم والأخلاق، وأنها مادية وليست روحية دنيوية وليس لها علاقة بالآخرة، وانها صفة ذاتية تنبعث من الشيء عند وجود الرغبة، ثم تزول بزوال الرغبة، فهي تتبع الرغبة وجوداً وعدماً، وان الثمن هو المقياس الاقتصادي للمنفعة، وان فائض المستهلك هو الفرق بين المنفعة الكلية والقيمة الكلية التي هي عبارة عن ثمن كل واحدة مضروباً في عدد الوحدات، فمثلاً لو وجد في السوق عرض مناسب أو كثير فيكون ثمن كيلو برتقال ثلاثة ريالات ـ مثلاً ـ ولكن إذا لم يوجد إلاّ قليل جداً فيشتري نفس المقدار منه بعشرة ريالات، إذاً فهذا الفرق ـ وهو سبعة ريالات ـ يسمى فائض المستهلك.

يختتم د. علي محيي الدين القره داغي عرض كتابه المشكلة الاقتصادية وحلها والذي ننشر حلقاته يوميا على صفحات «رمضانيات»، وقد تناولنا في الحلقة الماضية قضيتي (زكاة الأموال الظاهرة والباطنة، ونقل أموال الزكاة)، وفي هذه الحلقة يتحدث فضيلته عن الإنفاق العام ودوره في التنمية:

ثانياً ـ استعمال الانفاق العام أداة للسياسة المالية:

يمكن للدولة أن تستعمل النفقات العامة سواء كانت على شكل نقود وسلع، أو خدمات أداةً فعّالة للتحكم في السياسة المالية واستقرار الأسعار، وتحقيق أهدافها ضمن الخطة المرحلية الاستراتيجية نظراً إلى أن الدولة في الإسلام تملك -بالإضافة إلى إشرافها على الملكية العامة- معادنها وثرواتها واستثماراتها، ومن هنا فلديها قدرة جيدة على تحويل جميع نفقاتها العامة وإنفاقها في البنية التحتية ونحوها إلى أداة فعّالة في مجالات التوظيف، والتوزيع العادل، والتكافل ونحوها.

ففي حالة التضخم والكساد والبطالة توجه الدولة أموالها لعلاج هذه القضايا من خلال صرفها على:

1.المشاريع الانتاجية القائمة لتوسيعها وتوسيع قدراتها وطاقاتها الانتاجية، والاستيعابية لأكبر قدر ممكن للتوظيف، وزيادة الإنتاج، وذلك عن طريق شراء ما تحتاج إليه هذه المصانع، أو القيام بها من قبل أجهزة الدولة، أو من خلال المعونات النقدية.

2.إنشاء المشاريع الجديدة والمصانع النافعة للغرض السابق في جميع المجالات المؤثرة العقارية، والصناعية والزراعية..

3.المعونات الاقتصادية على شكل نقود في حالة الانكماش وفي شكل المواد العينية في حالة التضخم.

4.دعم المستثمرين لتشجيع الاستثمار من خلال:

‌أ-ضمان بعض مشروعاتهم التي فيها مخاطر كبيرة، مثل المشروعات الزراعية، أو…، ويمكن للدولة أن توجه الاستثمار إلى المشروعات التي تراها الدولة مفيدة للمجتمع، او محققة للتوازن أو القوة، من خلال ضمان المشروع برأس ماله مع نسبة من الربح في البداية، أو إعطاء وعد بضمان الخسارة عند تحققها، وهذا الضمان من الدولة جاز ما دامت طرفاً ثالثاً.

‌ب-دعم المشروعات الاجتماعية بإعانات نقدية أو عينية.

‌ج-دعم المشروعات المؤثرة العامة حسب الخطة.

‌د-تخفيض نسبة المرابحة معهم من خلال بنوك الدولة.

‌} -شراء محافظهم عند الضرورة أو الحاجة.

} .التشجيع على تعمير الأرض إحياء الموات وبالتالي زيادة التوظيف والعمالة والإنتاج، وبهذا فسّر النبي صلى الله عليه وسلم: من أحيا أرضاً ميتة فهي له حيث قال صلى الله عليه وسلم بحكم كونه إماماً وأن ذلك كان إذناً وتشجيعاً على التعمير على رأي جماعة من الفقهاء.

6.التحكم الايجابي في قانون العرض والطلب وبخاصة في ضروريات الحياة، مثل الغذاء، من خلال قيام الدولة بشراء كميات كبيرة من الناتج الزراعي -مثلاً- في أوقات الحصاد بالثمن المناسب حتى لا تنزل أسعاره فيتضرر المزارعون، وحينئذ يتركون الزراعة ويتجهون إلى غيرها، ثم تحتفظ بما اشتراه في مخازن الدولة، وعندما يقل المعروض من المواد الزراعية وترتفع الأسعار عادت الحكومة فطرحت كميات كبيرة من المخزون حتى تحافظ على استقرار الأسعار بقدر الإمكان.

ثالثاً: استعمال إحياء الموات

الإقطاع أداة اقتصادية لحالات التوسيع في التعمير والاستثمار، حيث تستطيع الدول تنظيم هذين الأمرين، والتغيير فيهما توسعاً أو تضييقاً لصالح السياسة المطلوبة، فقد تأذن إذناً عاماً لكل من يريد إحياء الأرض بشروط واسعة، أو مضيقة، أو منع ذلك إلاّ بعد الاذن والشروط الصعبة… وهكذا الأمر بالنسبة لإقطاع المعادن لمن هو قادر على استخراجها، أو الاستثمار فيها من البترول والغاز، ونحوهما للقطاع الخاص، أو المنع حسب السياسة الرشيدة، وهذا مبني على أن حديث: من أحيا أرضاً ميتة فهي له قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم كونه إماماً أي من باب السياسة الشرعية وهذا رأي جماعة من الفقهاء منهم الحنفية.

ويدل على ذلك من باب الفيء أيضاً من توزيع أراضي خيبر على المقاتلين، وإبقاء نصفها للدولة، ثم اتفق مع اليهود فيما يخص أموال الدولة، وغيرها على أن يزرعها اليهود ويكون لهم نصف إنتاجها، وبهذا ورد الحديث الصحيح المتفق عليه.

وهذا يدل على أن الدولة لها الحق أن تستثمر، وأن تستعمل أرض الفيء أداة للسياسة المالية المنشودة، وهي إبقاء الأرض بأيدي أصحابها ليستثمروها في بالزراعة والمساقاة، ولكن ملكية الأرض توزعت بين المقاتلين والدولة.

ويدل على أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من باب السياسة الشرعية، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بأراضي بني النضير حيث وزعها على المهاجرين، وثلاثة من فقراء الأنصار، وما فعله الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه من أنه لم يوزع الأراضي المفتوحة من العراق، والشام ونحوها على المجاهدين، وإنما أبقى الأرض بأيدي أصحابها ولكن فرض عليهم خراجاً ليكون مصدر دخل ثابت للدولة، ولتبقى الاستثمارات الزراعية باقية كما هي بل تتطور، بالإضافة إلى احتجاج عمر بأن للأجيال القادمة حقاً فيها فقال: (فإذا قسمت…. مما يسد الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بعد البلد من أرض الشام والعراق) بل إن الخلفاء المسلمين وبخاصة في عصر الخلافة العباسية كانت تضع حوافز جيدة للمزارعين بالتخفيف من الخراج، وإعفائهم منه، وإعطائهم البذور الجيدة، وبعض متطلبات الزراعية والسقاية، فقد غيّر هارون الرشيد رحمه الله هيكلة الضريبة (الخراج) على الأرض الخراجية في دولته من النسبة الثابتة إلى نسبة من الإنتاج، وأيده أبو يوسف مؤكداً أن هذه السيادة من شأنها تحسين أوضاع المزارعين، وتشجيعهم على المزيد من الإنتاج، فيكون أرحم بهم، وأفضل للدولة.

رابعاً: استعمال الضرائب أداة مالية:

فقد سبق القول أن الدولة في الإسلام يحق لها أن تفرض ضرائب عادلة لتحقيق التكافل الاجتماعي، وتنمية المجتمع، والدفاع، والتقدم، وفي مقابل خدمات حقيقية ما دامت الدولة بحاجة إليها، وأن أهدافها لا تتحقق بدونها.

فإذا فرضت الضرائب للاسباب السابقة فإنها -بجانب الزكاة- تقوم بدور كبير في تحقيق الأهداف المرصودة في الخطة المرحلية والاستراتيجية، فهي تساعد على استقرار الأسعار، والمحافظة على قيمة النقود، حيث تجبى نقداً فتقلل من كمية النقود، فتساعد على التخفيف من حدّة التضخم، ولا سيما إذا فرضت أيضا ًعلى دخول الأفراد، كما أنها تساعد على زيادة الميل على الاستهلاك عندما يصرف كلها أو بعضها في النفقات العامة للدولة، كما أنه تساعد على التوازن بين الأغنياء والفقراء.

ويمكن أن تستعمل الضرائب حوافز للاستثمارات والمشاريع الحيوية من خلال إعفائها من الضرائب، أو التخفيف منها.

والخلاصة أن الدولة تستطيع أن تجعل من الضرائب أدوات مؤثرة من ناحية توجيهها للاستثمار والإنتاج، والتوظيف والقضاء على البطالة والتضخم، ومن حيث توجيهها أيضاً حوافز عند فرضها للاستثمارات والمشاريع الحيوية.

خامساً: استعمال القرض العام، والتمويل العام أداة مالية:

(1) الاقتراض، والتموّل:

إن للدولة في ظل الفكر الإسلامي ذمة مالية مستقلة، قبل ظهور ما يسمى الآن: الشخصية الاعتبارية، أو المعنوية، من خلال نصوص الفقهاء حول بيت المال، ومن هنا فإن للدولة الحق في الاقتراض العام من الأفراد، أو المؤسسات في الداخل والخارج عند الضرورة، أو الحاجة للتكافل، أو التنمية الشاملة، أو التطوير والتقدم بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر مادي أو معنوي أكبر، أو مساو للضرر الذي يحصل عليه في حالة عدم الاقتراض وبشرك أن لا تترتب عليه فائدة محرمة.

فالدولة قد تقترض من الأفراد أو المؤسسات داخل الدولة لأجل امتصاص النقود وتقليلها في حالات التضخم، وقد تقترض لأغراض أخرى.

ومن المعروف أن الدول في ظل الاقتصاد الرأسمالي تلجأ إلى الاقتراض بفائدة مباشرة، أو عن طريق سندات الخزينة، وأما الدولة الإسلامية فليس لها الحق أن تقترض بفائدة، وبالتالي فقد لا يكون القرض متاحاً دون فائدة، ولذلك فالأصل في الاقتصاد الإسلامي هو أن تقوم الدولة بالتمويل عن طريق إحدى الصيغ الشرعية مثل المرابحة، والاستصناع، والمشاركات (شركة الأموال، والمضاربة) وجميع العقود الشرعية، كما يمكنها تمويل عجزها من خلال صكوك الاستثمار، سواء كانت صكوك المشاركة أو المضاربة، أو الاستصناع، أو الإجارات، أو غيرها.

(2) الإقراض والتمويل:

وللدولة الإسلامية كذلك الحق في إقراض المواطنين، والمؤسسات العاملة داخل الدولة، دون فائدة ـ بل يصل هذا الحق إلى الواجب إذا كان لدى الدولة فائض، وهؤلاء محتاجون إلى ذلك، مثل قروض الإسكان.

وإذا كانت أموال الدولة لا تكفي لذلك أو أنها بحاجة، فحينئذ يبقى حق التمويل للأفراد والمؤسسات ثابتاً على الدولة، ولا سيما عند الضرورة أو الحاجة سواء كان التمويل عن طريق المرابحة، أو المشاركة، أو المساقاة أو نحوها، والدولة تستطيع أن تجعل سياسة الاقراض الداخلي دون فائدة أداة فعالية وجيدة لتقليل كميات النقود في الداخل، وبذلك تساهم في تحفيف حدة التضخم، ثم عندما تعيد هذه الأموال بالانفاق العام تستطيع أن تستفيد منه للإنتاج والطلب الكلي والعرض الكلي.

وكذلك فإن سياسة إقراض المواطنين ـ دون فائدة ـ نقداً أو عيناً لقضاء حاجياتهم تساعد في الميل إلى الاستهلاك الايجابي وبالتالي زيادة الطلب الكلي، ومن هنا تحرك عملية الاقتصاد، وتزداد الحاجة إلى التوظيف.

ويمكن أن تستخدم أداة الاقراض دون فائدة لتشجيع الاستثمار الاجتماعي، أو الاستثمار الزراعي، أو الصناعي وكذلك التمويل بنسبة قليلة لنفس الغرض، بالاضافة إلى دور الإقراض دون فائدة، والتمويل بنسبة قليلة في الإنتاج، والتوظيف وغيرهما.

والخلاصة أن الدولة في ظل الاقتصاد الإسلامي تستطيع أن تجعل من الانفاق العام، والزكاة، والضرائب، وبقية موارد الدولة أدوات بكل ما تعني هذه الكلمة من دلالات لتحقيق الأهداف المنشودة في السياسة المالية حسب الخطط المرحلية والاستراتيجية، حيث تؤدي هذه السياسات المالية الإسلامية وأدواتها التي ذكرناها إلى زيادة الإنتاج، والاستثمار، والاستهلاك الايجابي، وبالتالي زيادة التوظيف، وزيادة الطلب الكلي، وعلى إعادة التوزيع للدخل والثروة، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والعناية بالقطاع الصناعي والزراعي والتجاري في ضوء فقه الأولويات والاكتفاء الذاتي والتوازن العادل، بل التطوير والازدهار.

ومما امتاز به النظام المالي الإسلامي هو وسطيته وتوازنه وتمايزه عن النظام الرأسمالي والشيوعي أو الاشتراكي، وقوته حيث إنه في الوقت الذي يعترف بحرية الملكية الفردية، وحرية السوق، فإنه يضع عليهما قيوداً معقولة تحقق مقاصد الفرد والجماعة، والمصالح العامة والخاصة، بالاضافة إلى أن الدولة في ظل الاقتصاد الإسلامي تملك من الوسائل والأدوات أكثر من الدولة في ظل النظام الرأسمالي -كما سبق- وانها تملك من الأموال أكثر منها، حيث إنها لها أموالها الخاصة، وأملاكها، وإشرافها الكامل على الملكية العامة مما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشراكة العامة فقال: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار والعدد هنا ليس له مفهوم الحصر -كما يقول علماء الأصول- حيث يشمل ضروريات الأمة العامة من الطاقة والمعادن، والإحياء، والأوقاف العامة ونحوها، فالدولة هي المسؤولة عنها.

ومن هنا تستطيع الدولة توجيه السياسات العامة من خلال هذه الأموال الكثيرة لتحقيق التنمية الشاملة، والنهضة والتقدم والحضارة، ولكن كل ذلك متوقف على وجود سياسة رشيدة، وموارد بشرية مخلصة أمينة ومتخصصة قوية علمية.